ثورة بين انتقالين

ثورة بين انتقالين

17 يناير 2015
+ الخط -

على الرغم ممّا أنجزه شبابنا من إطلاق أعظم ثورة في تاريخ تونس الحديث، وعلى الرغم من خروجه المتتالي في قصبات متعددة، وعلى الرغم من قافلة الشهداء التي لم تتوقف وجحافل الجرحى المتتالية وعذابات السنين الطويلة تحت وطأة الظلم والاستبداد، وعلى الرغم من كل هذه التضحيات، فما أنجز حتى الآن لم يرتق إلى الحد الأدنى المقبول سياسياً وشعبياً.
وفي نهاية المطاف، وجدنا أنفسنا من جديد عند المربع الأول في مواجهة عودة منظومةٍ خلنا أن صفحتها طويت بشكل نهائي. دخلنا منافسة انتخابية غير عادلة، ضد منظومة قديمة، تمتلك كل منافذ التأثير من مال وإعلام وشبكات تنظيمية معقدة، بدأت عملها منذ أكثر من سنتين، ما مكّنها من صناعة رأي عام انتخابي لصالحها، وما توجهت هذه المنظومة للانتخابات إلا بعدما تأكدت من هيمنتها، وضمنت مسبقاً نتائج الصندوق.
وفي الحقيقة، لم تكن التجربة التونسية سبّاقة في هذا المضمار، فلقد كانت التجربة الرومانية على المنوال نفسه، إذ عادت المنظومة القديمة في أول انتخابات، بعد إطاحة تشاوشيسكو في إطار ما سمّته جبهة الإنقاذ الوطني (التسمية نفسها اتخذتها المنظومة القديمة في تونس)، وبعد توظيفها كل وسائل النظام القديم من إعلام ومال وعلاقات وأجهزة، أمام قوى سياسية وطنية طوباوية لا تمتلك شيئاً من وسائل صناعة الرأي العام. وعندما نرى أن 45% من التونسيين صوتوا ضد مرشح منظومة الفساد والاستبداد، علينا أن نتأكد أن منسوب الوعي عالٍ جداً بين التونسيين، لأنه مكّن هذه النسبة العالية من المواطنين من الإفلات من تأثير الدعاية السياسية السوداء.
لكن ما حصل لا يبرر فقط بعودة المنظومة القديمة، إنما أيضاً بضعف الرؤية السياسية للقوى الوطنية الديمقراطية، ترويكا ومعارضة. فبينما كانت البلاد تتهيأ لمسارٍ من التحولات الثورية، لم تستطع النخب السياسية خصوصاً أن تتحرر من لحظة 13 يناير/ كانون الثاني 2011، وبقيت مقارباتها إصلاحية وشكلانية، في معظم الأحيان، واختزلت، في نهاية المطاف، في شعار الانتقال الديمقراطي ومقتضياته. وبسبب من ضعف ثقافتها السياسية، وعدم قدرتها على وضع رؤية مستقبلية واضحة، وارتهان أفقها السياسي لما دون أهداف ثورة الحرية والكرامة، اختزلت مطالب اللحظة في استصحاب الماضي بناءً على مصالحة غير منجزة.
ربما يستمرئ بعضهم، الآن، تبرير هذا الانكسار بالظرف الإقليمي وزحف الثورات المضادة في أكثر من بلد عربي. لكن، ماذا فعلنا لتحصين جبهتنا الداخلية أمام الاختراق الخارجي؟ وهل توفرت الإرادة السياسية الضرورية لشق طريق المستقبل لمطالب ثورة الحرية والكرامة وأهدافها، واصطدمت بالفعل بإرادة أقوى منها، حتى نبرر فشلنا في ما بعد؟
للأسف، لم أشعر يوماً بمثل هذه الإرادة الجبارة في حكومة الترويكا وفي صفوف المعارضة، بل ما عشناه لا يعدو كونه تصفية حسابات تاريخية بين خصوم إيديولوجيين. وبقيت أصوات الثائرين في كل صف نشازاً يثير اشمئزاز صانعي القرار داخل كل تيار سياسي، ولعلّ حالة الانفصام الحزبي في أثناء الانتخابات الرئاسية أكبر مثال على ذلك.
يبقى أن نتساءل الآن: هل أغلق قوس ثورة الحرية والكرامة نهائياً بالنظر لنتائج الانتخابات الأخيرة؟ هل علينا أن نبحث عن أفق ثوري جديد، غير الذي ارتسم في السنوات الأخيرة؟
بالنظر إلى التجارب التاريخية، قد يكون هذا صحيحاً، ففي الدول التي عادت فيها الأنظمة القديمة عبر الصندوق، لم يتمكن الثوار من استعادة مواقعهم إلا في موجات ثورية ثانية. فبقايا الاستبداد لا تسمح بالصندوق إلا مرة واحدة، عند عبورها إلى الحكم، وبعد ذلك تغلق وراءها باب الانتخابات والتنافسية النزيهة بشكل محكم. رأينا ذلك في جورجيا وأوكرانيا، وفي غيرهما من دول الانتقال الديمقراطي في أوروبا الشرقية. ولم تستطع الثورة أن تستعيد أنفاسها إلا بالعودة إلى الشارع مرة أخرى، عبر العصيان المدني السلمي. هل قدر الثورة التونسية أن تعود من جديد للشارع لاستكمال مسارها؟
يبقى أن نفهم أن الثورة المضادة الراجعة عبر شرعية الصندوق ستعمل على توفير شروط استمرارها وغلق الباب على كل منافسيها. قد يبدو ذلك منطقياً في ظل شروط شفافة ومناخات سياسية إيجابية، وفي إطار ما يضبطه القانون، فكل سلطة منتخبة وديمقراطية حريصة على تقوية مواقعها التنافسية. لكن، في ظل هشاشة التجربة التونسية، وضعف مؤسساتها وحداثتها، وبالنظر للثقافة الاستبدادية، وما يطالعنا به الحزب الفائز من مواقف وخطاب إقصائي، ذلك كله سيجعل من هذه المنظومة تشتغل على محورين، لتضمن استمرارها، وبالتالي مصالحها.
الأول بتضييق الفضاءات العامة، وتخويف المعارضين وتحييدهم إعلامياً وسياسياً، وإن اضطروا لذلك، قد يصل الأمر إلى افتعال قضايا ضد بعض الناشطين ومحاكمتهم. أما المحور الثاني، فيتمثل في تعفين الحياة السياسية، بإغراقها بالفساد المالي والأخلاقي، وضرب أي نموذج قيم يمكن أن يكون ذا مصداقية جماهيرية.
أتحدث عن هذه السيناريوهات، ليس ضرباً بالغيب، بل اعتماداً على رصد معطيات بدأت تطفو على الساحة، غير خافية على كل متابع. ولكن، أيضاً انطلاقاً من دراسات مقارنة مع أنظمة سياسية "جنيسة" عربية وأوروبية، اعتبرت نماذج عمل للمنظومة العائدة من جديد إلى الحكم في تونس.
لكن بعض الأصوات، المتعالية هنا أو هناك، مطمئنة ومتفائلة، قد تعترض على هذا المسار في التحليل، فترى أن منجزات المرحلة الانتقالية أقوى من عودة أية قوة سياسية متغوّلة، وإنه لا يزال ممكناً الرهان على تقدم التجربة الديمقراطية، وإن الصراع السياسي في المرحلة المقبلة سيتركز على وسائل التأثير في الواقع، مؤسسات منتخبة وأدوات إعلامية وشبكات علاقات ومجتمع مدني. ويزيد بعضهم في تفاؤله بأن المرحلة المقبلة ستتسم بعدم الاستقرار في المؤسسات السيادية للدولة، وبالتالي يمكن أن نجد أنفسنا أمام انتخابات رئاسية، وربما حتى تشريعية، سابقة لأوانها، ما يسمح بإمكانية تعديل موازين القوى لصالح قوى جديدة.
وفي الحقيقة، وعلى الرغم من أن التفاؤل مطلوب في كل الأحوال، إيماناً منّا بقدرة القوى الحية داخل شعبنا على افتكاك حقوقها السياسية والاجتماعية، إلا أن الرهان على سياسة المصاحبة والمراقبة للمنظومة القديمة العائدة إلى السلطة حديثاً لن يجدي نفعاً مع شبكات مصالح نشأت داخل السلطة، ومررت فسادها عبرها ولا يمكنها أن تحتفظ بتلك المصالح إلا من خلالها. فحتى إن حصلت انتخابات سابقة لأوانها، فالأدوات السياسية والمالية والإعلامية والتنظيمية نفسها، وحتى الإقليمية، ما زالت مستعدة للعب الدور نفسه الذي أقنعت به 55% من التونسيين أن الماضي أفضل من المستقبل.
لم تنتصر أية ثورة في التاريخ بتزييف إرادة الناخبين، بل بتحرير تلك الإرادات عبر إشاعة الوعي بقيم الثورة. ولكن، أيضاً، بتحرير الدولة من اغتصاب المستبدين وتمليكها للثائرين. الثورة مشروع، ولكل مشروع أهدافه، كذلك كانت الثورة الفرنسية، فإذا تنازلت الثورة عن أهدافها، فمن الطبيعي أن تفوز الجماعات الكلبية ولو بالديمقراطية.
لكن، بعيداً عن التجاذبات الحزبية التي تبدو، إلى حدٍ ما، نخبوية وفوقية، وحتى متعالية، فإن الواقع الاقتصادي والاجتماعي للمواطن التونسي ما زال يعاني من تدهور المقدرة الشرائية، كما تتعمّق أزمة البطالة بين الشباب، خصوصاً من خريجي الجامعات، حيث سيبلغ، خلال السنتين المقبلتين، النصف مليون عاطل من العمل. وكذلك وضع الجهات التي انطلقت منها الاحتجاجات التي أدت إلى إسقاط بن علي سنة 2011، إذ ما زالت هذه الجهات تعاني من التهميش والتفاوت غير العادل. ستعجز الحكومة الجديدة عن إيجاد الحلول المناسبة إزاء الأزمة الاقتصادية والاجتماعية المتفاقمة، وستؤدي الظروف الصعبة نفسها التي سترافق أزمة الأداء الحكومي إلى ما أدت إليه مناخات 2010 في تونس. فنحن في سيرورة تاريخية، بدأت بتصدع عميق في بنية النظام السياسي التونسي الحديث، وستستمر حتى تفرز التوازنات الطبيعية التي تستجيب لانتظارات التونسيين.

avata
avata
تونس
تونس
تونس