25 نوفمبر 2019
ترامب في "عين الأسد" العراقية.. المعاني والأبعاد
قام الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، في 26 ديسمبر/ كانون الأول 2018، بزيارة مثيرة للجدل للعراق، من دون أن يلتقي في أثنائها أيا من المسؤولين العراقيين، الأمر الذي أثار تساؤلات في أوساط الجماهير العراقية أولاً، وهي مشدوهة، ولا تزال، من الشكل الذي امتهنت به سيادة بلده. ولعل من المثير للانتباه أن ترامب قد حط في قاعدة القادسية الجوية، والتي يدعوها الأميركيون قاعدة عين الأسد، وهي من أهم القواعد الجوية ضمن سلسلة من القواعد الاستراتيجية التي أنشأها نظام الرئيس صدام حسين في ثمانينيات القرن المنصرم، إبان الحرب العراقية الإيرانية لتحقيق جملة من الأهداف الاستراتيجية. ونفذت الأعمال الإنشائية للقاعدة شركة يوغسلافية متخصصة في بناء المنشآت العسكرية، في عقد واسع، غطى أراضي القطر العراقي.
وتعد "عين الأسد" واحدة من خمس قواعد أنشئت على المستوى نفسه من التحصين والتجهيز، وهي علي بن أبي طالب في الناصرية، وأبو عبيدة في الكوت، والبكر في بلد، وصدّام في القيارة في الموصل، ثم قاعدة القادسية الجوية في منطقة البغدادي في الأنبار. وقد أمّنت هذه السلسلة من القواعد الجوية الاستراتيجية المترابطة للعراق إمكانية جيدة لانفتاح جهده الجوي الاستراتيجي للتعامل مع التهديدات القادمة من الغرب (إسرائيل)، والجنوب (الخليج العربي)، والشرق (إيران) والشمال (تركيا). وتتيح شبكة الإسناد والتعاون المتبادل لهذه القواعد المرونة
التامة في تحويل نشر الجهد الجوي وإعادته على الصعيدين، الاستراتيجي والعملياتي، وهو أمر تمت تجربته في أثناء الحرب العراقية الإيرانية، حيث وصلت طائرات الميراج (EQ-5) إلى مداخل الخليج العربي من جهة مضيق هرمز، حيث تم ضرب جزيرة لافان (الشيخ شعيب) الإيرانية، بتشكيل طائراتٍ انطلقت من قاعدة علي بن أبي طالب الجوية، بل وحتى من قاعدة صدّام الجوية، وجرى تموينها بالوقود جواً. وفي المواجهة مع قوات حملة عاصفة الصحراء في 1991، أسقط العراقيون طائرة سبايكر بطائرةٍ انطلقت من قاعدة البكر الجوية على الأكثر. وكانت المدمرة الأميركية ستارك في الخليج العربي عام 1986 قد ضربت خطأً بطائرة منطلقة من قاعدة علي بن أبي طالب. ولم يقف هذا المستوى من الإعداد العملياتي والتحصين بالطبع بوجه الضربات الجوية المركّزة التي شنتها قوات الغزو الأميركية عام 2003، فقد تم تدمير هذه القواعد بشكل كبير، زيادة على التدمير الذي أحاق بها في عمليات عاصفة الصحراء عام 1991.
زيارة ترامب والسيادة العراقية
وقد توفرت فرصة ذهبية لإيران، ومناصريها في العراق، لتكتيل جهودهم للانتقام من موقف الرئيس ترامب، فرض العقوبات على إيران، وإيجاد ظروفٍ تساعد على التعجيل بإجبار الولايات المتحدة الأميركية للانسحاب من العراق، الأمر الذي سيطلق يد إيران في العراق بشكل كامل ونهائي، ويفسح المجال لها لتحقيق مشروعها الإمبراطوري، بالسيطرة على الامتداد البري من حدود الصين وحتى البحر المتوسط. وهو مشروعٌ يهدّده الوجود القوي للولايات المتحدة في العراق وسورية وأفغانستان. ولذلك تسعى إيران لطرد الولايات المتحدة من العراق وأفغانستان، لينفتح لها الطريق لتنفيذ مشروعها الاستراتيجي بعيد المدى، والذي تهدّده إجراءات الرئيس ترامب، بعد انسحاب أميركا من اتفاق 5+1 النووي مع إيران. ويبقى حينئذ تحدٍ واحد لإيران، ومشروعها الطموح، وهو تصفية أو تدجين الوجود السني القوي في المحافظات العراقية الوسطى الثلاث، وهي ديالى وبغداد والأنبار، وهو إجراءٌ تتكفّل به المليشيات الحليفة لها في غياب أي وجود عسكري فعلي أميركي على الأرض العراقية، حيث سيغيب معه أي دور سياسي ذي مغزى للولايات المتحدة.
كان هنالك اتفاق سابق غير معلن أن يقوم الرئيس ترامب بزيارة رسمية للعراق، ولكن متطلبات المحافظة على سرّية الزيارة، وعدم الإعلان عنها، لم يلتزم بها ربما الجانب العراقي، فقد تم تسريب الخبر، ما جعل الجانب الأميركي يسارع إلى إلغاء ترتيبات الزيارة، وإبقاء أية ترتيبات لزيارة مستقبلية قيد الكتمان، وهو ما حصل، حيث نفذت هذه الزيارة بمعزل عن
الحكومة العراقية، على الرغم من تضارب الأخبار عن إخبار الحكومة العراقية مبكراً، كما تدّعي هذه لأسبابٍ داخليةٍ لاحتواء المعارضة التي واجهتها من جبهة مناصري إيران، أو نفي ذلك، كما فعلت المتحدثة باسم البيت الأبيض، على الرغم من أخبار عن زيارة محتملة للعراق وأفغانستان كانت قيد المناقشة في نوفمبر/ تشرين الثاني 2018، كما أوردته صحيفة واشنطن بوست في 19 نوفمبر/ تشرين الثاني 2018، مبينة تردد الرئيس ترامب بزيارة القطعات الأميركية المقاتلة فيما وراء البحار ( في سورية والعراق وأفغانستان)، كما صرّح، وهو يستقلّ طائرته الرئاسية، مبيناً أنه لا يود زيارة مناطق حروبٍ "فاشلة"، عارضها مسبقاً.
ومع ذلك، تمت هذه الزيارة التي كما يبدو لم يتم إشعار الحكومة العراقية بها إلا بعد أن حطت طائرة الرئيس الأميركي في قاعدة عين الأسد الحيوية. وهنا تمت دعوة رئيس الوزراء العراقي، عادل عبد المهدي، للقاء ترامب في القاعدة، لكن عبد المهدي رفض كما بيّنت حكومته. وكان هنالك ادعاء عن دعوة عبد المهدي وجهها ترامب في اتصال هاتفي بينهما لزيارة واشنطن. وقد بيّنت السكرتيرة الصحافية للبيت الأبيض، سارة هوكابي، أن اجتماعاً بين الرجلين، كان مقرّرا، ألغي لدواعٍ أمنية، بينما أعلن مكتب رئيس الوزراء العراقي عن إلغاء الاجتماع لعدم الاتفاق على مكانه، وتمت الاستعاضة عنه بمحادثة هاتفية. ولكن المتتبع لتفاصيل الزيارة يلاحظ أن ترامب لم يكن في وارد حتى الإشارة إلى شكره الحكومة العراقية، لاستضافتها الجنود والتسهيلات العسكرية الأميركية في العراق، والتي لم يكن يُتاح لها الوجود الشرعي لولا موافقتها. بل ركّز على شكر الجهد الذي بذلته القوات الأميركية في قتال مسلحي تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، وهو جهد حقيقي، لم يكن ليتاح للحكومة العراقية أن تنجز مهمة طرد هؤلاء من العراق، مبيناً نجاحها في تأمين تحرير عشرين ألف ميل مربع في سورية والعراق، ضمنها مرتكزا "داعش" الرئيسيان في الموصل والرقة. كما كشف الرئيس ترامب، ربما بشكلٍ يخرق القواعد الأميركية عن وجود مقاتلي النخبة من مشاة البحرية في هذه القاعدة، وكذلك سحب بعض من القوات الأميركية المنسحبة من سورية، مبيّنة النية في استخدام هذه القاعدة (وربما غيرها في العراق) في واجباتٍ قتاليةٍ مستقبلية، وعن عدم وجود النية في الوقت الحاضر للانسحاب من العراق مستقبلاً.
استراتيجية ترامب
يمكن استنتاج ما يلي باعتبارها رسائل أرسلتها زيارة الرئيس ترامب العراق:
1. لا يزال العراق، بشطريه العربي والكردي، يمثل أهمية استراتيجية كبرى للانتشار الاستراتيجي الأميركي في المشرق العربي.
2. يمثل هذا الحضور الأميركي في العراق ردعاً للاستحواذ الإيراني النهائي على العراق، وعقبة بوجه الانتشار الاستراتيجي للمشروع الإيراني الطموح في تأمين الوجود من حدود الصين وحتى المتوسط.
3. يمثل الحضور الأميركي العسكري ذو المغزى في العراق رافعة لإدامة التأثير الأميركي على التوجهات الاستراتيجية النهائية للحكومة العراقية.
4. يمثل هذا الحضور بديلاً كبيراً، وهو ذو اعتمادية عالية على إدامة الحضور الأميركي القوي، سواء في حالة إنهاء الحضور الأميركي في أماكن أخرى، كقاعدتي إنجرليك في تركيا، أو العديد في قطر، لأي سبب.
5. يمثل الحضور العسكري الأميركي دعماً لحلفاء الولايات المتحدة في المنطقة، كالأكراد مثلاً، على الرغم من أن صدقية هذا الدعم في ظل مجابهة ساخنة مع الأعداء المحتملين ستظل محكومة بمصالح الولايات المتحدة فقط.
ولكن، هل خرقت زيارة ترامب السيادة العراقية؟ انتشر هذا السؤال على وسائل الإعلام، وفي تصريحات رؤساء الكتل النيابية الموالية لإيران، فور الإعلان عن الزيارة، وتصاعدت لهجة التصريحات، حتى دخل زعماء المليشيات على الخط، مهدّدين باستهداف القوات الأميركية عسكرياً، لإجبارها على الانسحاب، مدّعين أنهم من أجبروها على الانسحاب من العراق عام 2011، بعد تكبيد قواتها آلافا من الخسائر البشرية، وهو ادّعاء فج، فالمعروف أن من شنت حربا ضد الوجود العسكري الأميركي هي قوى المقاومة العراقية في المحافظات السنية الست، وليس المليشيات ذات الهوى الإيراني، مستذكرين أن الرئيس الإيراني السابق، أحمدي نجاد، انتقل من المطار إلى المنطقة الخضراء على متن طائرة هليكوبتر عسكرية أميركية، وأن مراجع دينية شيعية حرّمت قتال الأميركيين، وربما شذ التيار الصدري إلى حد ما، إلا أن إسهامه في المقاومة كان محدوداً.
اتفاقيات ووقائع
تحكم العلاقة بين الوجود الأميركي العسكري في العراق والحكومة العراقية اتفاقية بينهما وقعت في 17 نوفمبر/ تشرين الثاني 2008. وتم التوصل بعد 2011 إلى اتفاقية إطار بين وزارتي خارجية البلدين، ضمن العمل بالاتفاقية بعد الانسحاب العسكري الأميركي في 31 ديسمبر/ كانون الأول 2011. وقد وقعت الاتفاقيتان في حقبة رئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي الذي ادّعى أخيراً، في تغريدةٍ له، أنه ظن أن في العراق خبراء أميركيين وليس قواعد، وهو ادّعاء متهافت، كونه هو من أقر اتفاقيتي الانتشار 2008 والإطار 2011 والتي تتييح للقوات والأفراد والمعدات دخول العراق، وقد جددت في 29 ديسمبر/ كانون الأول 2018 بعد الضجة التي أثيرت حول زيارة الرئيس ترامب، والذي هبط بعدها في قاعدة رامشتين الجوية في ألمانيا، حيث يحكم الوجود الأميركي في ألمانيا اتفاق مشابه لاتفاقية يسمى (Truppenstationierungsrecht). والتقى ترامب في القاعدة عسكريين أميركيين، من دون أن يلتقي أيا من المسؤولين الألمان، أو يتصل بأحد منهم، من دون أن تثار في ألمانيا أية ضجة، فما هو سبب الاختلاف بين الحالتين؟
1. منذ قرار مجلس الأمن 687/1991، تعد السيادة العراقية ناقصة، حيث وضع البلد تحت ما يشبه وصاية الأمم المتحدة، لأن هذا القرار، وما تبعه من قرارات، اتخذت تحت الفصل السابع، وهو التهديد باستخدام القوة في حالة عدم انصياع العراق لنصوصه.
2. بقيت نصوص هذا القرار وتداعياته تحكم الوضع السيادي العراقي، حتى بعد انهيار النظام السابق نتيجة الغزو.
3. السيادة العراقية منتهكة فعليا، ليس بسبب هذا القرار فحسب، بل بالوجود والتدخل الإيراني
الكثيف في الشأن العراقي، ووجود قوات مسلحة تركية على الأرض العراقية، بموجب اتفاقيةٍ ثنائيةٍ، سبق توقيعها بين الحكومتين. ووجود مقاتلي حزب العمال الكردستاني والقاعدة وتنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، وأكثر من مليشيا مسلحة، تدعمها إيران، من دون أن تتمكن الحكومة العراقية من ردعها أو احتوائها.
4. اتفاقية الإطار قد تم تجديدها في 29 من شهر ديسمبر/ كانون الأول 2018 بتوقيع وكيل وزارة الخارجية العراقية، ونظيره الأميركي، عليها وعدم إعراب الحكومة العراقية عن نيتها على الانسحاب منها، ما يعطي الشرعية للوجود العسكري الأميركي في العراق.
5. من المهم بيان أن العراق سيكون واهنا إزاء تهديدات "داعش"، أو وريث هذا التنظيم الإرهابي، من دون وجود الغطاء العسكري الجوي، وربما البرّي للقوات المسلحة العراقية. وقرار الرئيس أوباما الانسحاب العسكري من العراق عام 2011 هو ما أطلق العنان للمليشيات الإيرانية للاستحواذ على الوضع الداخلي في العراق، وهو ما أتاح الفرصة الذهبية لتنظيم داعش لتحقيق ما حققه عام 2014.
من هنا يتبين أن موقف الكتل السياسية الشيعية ومليشياتها من زيارة الرئيس ترامب هبّة خطّط لها الإيرانيون لإثارة العراقيل بوجه الوجود الأميركي لتخفيف الضغط عن المعاناة الإيرانية من العقوبات، ولم يتبدّ أن في وارد الحكومة العراقية الانسحاب من الاتفاقية المنظمة للعلاقات في الوقت الحاضر، بحكم توقيعها تمديدها. وهنا من المفيد الإشارة إلى أن وزير الخارجية العراقي الحالي أميركي الجنسية منذ وقت طويل.
زيارة ترامب والسيادة العراقية
وقد توفرت فرصة ذهبية لإيران، ومناصريها في العراق، لتكتيل جهودهم للانتقام من موقف الرئيس ترامب، فرض العقوبات على إيران، وإيجاد ظروفٍ تساعد على التعجيل بإجبار الولايات المتحدة الأميركية للانسحاب من العراق، الأمر الذي سيطلق يد إيران في العراق بشكل كامل ونهائي، ويفسح المجال لها لتحقيق مشروعها الإمبراطوري، بالسيطرة على الامتداد البري من حدود الصين وحتى البحر المتوسط. وهو مشروعٌ يهدّده الوجود القوي للولايات المتحدة في العراق وسورية وأفغانستان. ولذلك تسعى إيران لطرد الولايات المتحدة من العراق وأفغانستان، لينفتح لها الطريق لتنفيذ مشروعها الاستراتيجي بعيد المدى، والذي تهدّده إجراءات الرئيس ترامب، بعد انسحاب أميركا من اتفاق 5+1 النووي مع إيران. ويبقى حينئذ تحدٍ واحد لإيران، ومشروعها الطموح، وهو تصفية أو تدجين الوجود السني القوي في المحافظات العراقية الوسطى الثلاث، وهي ديالى وبغداد والأنبار، وهو إجراءٌ تتكفّل به المليشيات الحليفة لها في غياب أي وجود عسكري فعلي أميركي على الأرض العراقية، حيث سيغيب معه أي دور سياسي ذي مغزى للولايات المتحدة.
كان هنالك اتفاق سابق غير معلن أن يقوم الرئيس ترامب بزيارة رسمية للعراق، ولكن متطلبات المحافظة على سرّية الزيارة، وعدم الإعلان عنها، لم يلتزم بها ربما الجانب العراقي، فقد تم تسريب الخبر، ما جعل الجانب الأميركي يسارع إلى إلغاء ترتيبات الزيارة، وإبقاء أية ترتيبات لزيارة مستقبلية قيد الكتمان، وهو ما حصل، حيث نفذت هذه الزيارة بمعزل عن
ومع ذلك، تمت هذه الزيارة التي كما يبدو لم يتم إشعار الحكومة العراقية بها إلا بعد أن حطت طائرة الرئيس الأميركي في قاعدة عين الأسد الحيوية. وهنا تمت دعوة رئيس الوزراء العراقي، عادل عبد المهدي، للقاء ترامب في القاعدة، لكن عبد المهدي رفض كما بيّنت حكومته. وكان هنالك ادعاء عن دعوة عبد المهدي وجهها ترامب في اتصال هاتفي بينهما لزيارة واشنطن. وقد بيّنت السكرتيرة الصحافية للبيت الأبيض، سارة هوكابي، أن اجتماعاً بين الرجلين، كان مقرّرا، ألغي لدواعٍ أمنية، بينما أعلن مكتب رئيس الوزراء العراقي عن إلغاء الاجتماع لعدم الاتفاق على مكانه، وتمت الاستعاضة عنه بمحادثة هاتفية. ولكن المتتبع لتفاصيل الزيارة يلاحظ أن ترامب لم يكن في وارد حتى الإشارة إلى شكره الحكومة العراقية، لاستضافتها الجنود والتسهيلات العسكرية الأميركية في العراق، والتي لم يكن يُتاح لها الوجود الشرعي لولا موافقتها. بل ركّز على شكر الجهد الذي بذلته القوات الأميركية في قتال مسلحي تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، وهو جهد حقيقي، لم يكن ليتاح للحكومة العراقية أن تنجز مهمة طرد هؤلاء من العراق، مبيناً نجاحها في تأمين تحرير عشرين ألف ميل مربع في سورية والعراق، ضمنها مرتكزا "داعش" الرئيسيان في الموصل والرقة. كما كشف الرئيس ترامب، ربما بشكلٍ يخرق القواعد الأميركية عن وجود مقاتلي النخبة من مشاة البحرية في هذه القاعدة، وكذلك سحب بعض من القوات الأميركية المنسحبة من سورية، مبيّنة النية في استخدام هذه القاعدة (وربما غيرها في العراق) في واجباتٍ قتاليةٍ مستقبلية، وعن عدم وجود النية في الوقت الحاضر للانسحاب من العراق مستقبلاً.
استراتيجية ترامب
يمكن استنتاج ما يلي باعتبارها رسائل أرسلتها زيارة الرئيس ترامب العراق:
1. لا يزال العراق، بشطريه العربي والكردي، يمثل أهمية استراتيجية كبرى للانتشار الاستراتيجي الأميركي في المشرق العربي.
2. يمثل هذا الحضور الأميركي في العراق ردعاً للاستحواذ الإيراني النهائي على العراق، وعقبة بوجه الانتشار الاستراتيجي للمشروع الإيراني الطموح في تأمين الوجود من حدود الصين وحتى المتوسط.
3. يمثل الحضور الأميركي العسكري ذو المغزى في العراق رافعة لإدامة التأثير الأميركي على التوجهات الاستراتيجية النهائية للحكومة العراقية.
4. يمثل هذا الحضور بديلاً كبيراً، وهو ذو اعتمادية عالية على إدامة الحضور الأميركي القوي، سواء في حالة إنهاء الحضور الأميركي في أماكن أخرى، كقاعدتي إنجرليك في تركيا، أو العديد في قطر، لأي سبب.
5. يمثل الحضور العسكري الأميركي دعماً لحلفاء الولايات المتحدة في المنطقة، كالأكراد مثلاً، على الرغم من أن صدقية هذا الدعم في ظل مجابهة ساخنة مع الأعداء المحتملين ستظل محكومة بمصالح الولايات المتحدة فقط.
ولكن، هل خرقت زيارة ترامب السيادة العراقية؟ انتشر هذا السؤال على وسائل الإعلام، وفي تصريحات رؤساء الكتل النيابية الموالية لإيران، فور الإعلان عن الزيارة، وتصاعدت لهجة التصريحات، حتى دخل زعماء المليشيات على الخط، مهدّدين باستهداف القوات الأميركية عسكرياً، لإجبارها على الانسحاب، مدّعين أنهم من أجبروها على الانسحاب من العراق عام 2011، بعد تكبيد قواتها آلافا من الخسائر البشرية، وهو ادّعاء فج، فالمعروف أن من شنت حربا ضد الوجود العسكري الأميركي هي قوى المقاومة العراقية في المحافظات السنية الست، وليس المليشيات ذات الهوى الإيراني، مستذكرين أن الرئيس الإيراني السابق، أحمدي نجاد، انتقل من المطار إلى المنطقة الخضراء على متن طائرة هليكوبتر عسكرية أميركية، وأن مراجع دينية شيعية حرّمت قتال الأميركيين، وربما شذ التيار الصدري إلى حد ما، إلا أن إسهامه في المقاومة كان محدوداً.
اتفاقيات ووقائع
تحكم العلاقة بين الوجود الأميركي العسكري في العراق والحكومة العراقية اتفاقية بينهما وقعت في 17 نوفمبر/ تشرين الثاني 2008. وتم التوصل بعد 2011 إلى اتفاقية إطار بين وزارتي خارجية البلدين، ضمن العمل بالاتفاقية بعد الانسحاب العسكري الأميركي في 31 ديسمبر/ كانون الأول 2011. وقد وقعت الاتفاقيتان في حقبة رئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي الذي ادّعى أخيراً، في تغريدةٍ له، أنه ظن أن في العراق خبراء أميركيين وليس قواعد، وهو ادّعاء متهافت، كونه هو من أقر اتفاقيتي الانتشار 2008 والإطار 2011 والتي تتييح للقوات والأفراد والمعدات دخول العراق، وقد جددت في 29 ديسمبر/ كانون الأول 2018 بعد الضجة التي أثيرت حول زيارة الرئيس ترامب، والذي هبط بعدها في قاعدة رامشتين الجوية في ألمانيا، حيث يحكم الوجود الأميركي في ألمانيا اتفاق مشابه لاتفاقية يسمى (Truppenstationierungsrecht). والتقى ترامب في القاعدة عسكريين أميركيين، من دون أن يلتقي أيا من المسؤولين الألمان، أو يتصل بأحد منهم، من دون أن تثار في ألمانيا أية ضجة، فما هو سبب الاختلاف بين الحالتين؟
1. منذ قرار مجلس الأمن 687/1991، تعد السيادة العراقية ناقصة، حيث وضع البلد تحت ما يشبه وصاية الأمم المتحدة، لأن هذا القرار، وما تبعه من قرارات، اتخذت تحت الفصل السابع، وهو التهديد باستخدام القوة في حالة عدم انصياع العراق لنصوصه.
2. بقيت نصوص هذا القرار وتداعياته تحكم الوضع السيادي العراقي، حتى بعد انهيار النظام السابق نتيجة الغزو.
3. السيادة العراقية منتهكة فعليا، ليس بسبب هذا القرار فحسب، بل بالوجود والتدخل الإيراني
الكثيف في الشأن العراقي، ووجود قوات مسلحة تركية على الأرض العراقية، بموجب اتفاقيةٍ ثنائيةٍ، سبق توقيعها بين الحكومتين. ووجود مقاتلي حزب العمال الكردستاني والقاعدة وتنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، وأكثر من مليشيا مسلحة، تدعمها إيران، من دون أن تتمكن الحكومة العراقية من ردعها أو احتوائها.
4. اتفاقية الإطار قد تم تجديدها في 29 من شهر ديسمبر/ كانون الأول 2018 بتوقيع وكيل وزارة الخارجية العراقية، ونظيره الأميركي، عليها وعدم إعراب الحكومة العراقية عن نيتها على الانسحاب منها، ما يعطي الشرعية للوجود العسكري الأميركي في العراق.
5. من المهم بيان أن العراق سيكون واهنا إزاء تهديدات "داعش"، أو وريث هذا التنظيم الإرهابي، من دون وجود الغطاء العسكري الجوي، وربما البرّي للقوات المسلحة العراقية. وقرار الرئيس أوباما الانسحاب العسكري من العراق عام 2011 هو ما أطلق العنان للمليشيات الإيرانية للاستحواذ على الوضع الداخلي في العراق، وهو ما أتاح الفرصة الذهبية لتنظيم داعش لتحقيق ما حققه عام 2014.
من هنا يتبين أن موقف الكتل السياسية الشيعية ومليشياتها من زيارة الرئيس ترامب هبّة خطّط لها الإيرانيون لإثارة العراقيل بوجه الوجود الأميركي لتخفيف الضغط عن المعاناة الإيرانية من العقوبات، ولم يتبدّ أن في وارد الحكومة العراقية الانسحاب من الاتفاقية المنظمة للعلاقات في الوقت الحاضر، بحكم توقيعها تمديدها. وهنا من المفيد الإشارة إلى أن وزير الخارجية العراقي الحالي أميركي الجنسية منذ وقت طويل.