ترافق تسلم رئيس الوزراء التركي الحالي، بن علي يلدريم، لمنصبه، في مايو/أيار 2015، مع تحول كبير في السياسة الخارجية. بدأ بإعادة تطبيع العلاقات مع كل من روسيا وإسرائيل، ووصل أخيراً إلى حد تهدئة الخلافات مع كل من إيران ومصر والعراق والنظام السوري. وبدا هذا التحول كاستراتيجية واضحة أتاحت لتركيا عزل حزب "العمال الكردستاني" عن جميع داعميه المحتملين، باستثناء تعاون إدارة الرئيس الأميركي، باراك أوباما، مع هذا الحزب الذي تصفه أنقرة بالمنظمة الإرهابية. لكن هناك شكوكاً متزايدة حول إمكانية انتهاء هذا التعاون، بعد استلام الرئيس الأميركي المنتخب، دونالد ترامب، لمنصبه قريباً.
وبدا يلدريم وكأنه يكمل ما بدأه رئيس الوزراء التركي السابق، أحمد داود أوغلو، الذي نجح في تأمين جميع الشروط السياسية على المستويين الخارجي والداخلي، لتوجيه ضربة قوية لـ"العمال الكردستاني" في الداخل التركي، على المستويين السياسي والعسكري.
ونجح داود أوغلو في التفاوض مع الأميركيين والأوروبيين للحصول على صمتهم عن عمليات الجيش التركي ضد "الكردستاني". وقايض فتح قاعدة إنجرليك التركية أمام قوات "التحالف الدولي" لتنفيذ عملياتها ضد تنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش)، بدعم أميركي لعمليات الجيش التركي ضد "الكردستاني". وكان لتدفق اللاجئين والمهاجرين عبر الأراضي التركية إلى الاتحاد الأوروبي، دور أساسي في ضمان صمت الاتحاد، وصولاً للضغط على بعض دوله لوقف نشاطات "الكردستاني" في أراضيها. وترافق وصول يلدريم لرئاسة الوزراء، مع محاولات حثيثة لثني واشنطن عن دعم الجناح السوري لـ"الكردستاني"، ممثلاً بحزب "الاتحاد الديمقراطي"، عبر تقديم بديل مؤلف من قوات المعارضة السورية المعتدلة كحليف في محاربة "داعش". وعندما امتنعت الإدارة الأميركية عن دعم الأخيرة، مقابل موافقة أنقرة على عبور "الاتحاد الديمقراطي" لغرب الفرات والسيطرة على مدينة منبج، اضطرت الإدارة التركية للتوصل إلى اتفاقات مع كل من روسيا وإيران للسماح لقواتها بدخول ريف حلب الشمالي وطرد "داعش" من جرابلس، وبالتالي فرض وقائع على الأرض قد تساهم في تحسين الموقع التفاوضي لأنقرة في وجه واشنطن. إلا أن الإدارة الأميركية تشبثت بموقفها ولم تقدم أي دعم لعملية درع الفرات، مقابل استمرارها في دعم قوات "الاتحاد الديمقراطي" في التوسع في ريف الرقة الشمالي، على حساب "داعش".
كل ذلك دفع الإدارة التركية للبحث عن حلول بديلة لمواجهة "الكردستاني" وعزله في كل من سورية والعراق، بعيداً عن التعاون مع واشنطن. وعلى الجانب السوري، اضطرت أنقرة للتوافق مع كل من طهران وموسكو، على انسحاب قوات المعارضة السورية وإخلاء المدنيين من حلب، مقابل سيطرة الروس على حلب الشرقية وعدم السماح للمليشيات الإيرانية بالسيطرة عليها، وكذلك طرد قوات "الاتحاد الديمقراطي" من المناطق التي تسيطر عليها في المدينة.
وبالفعل، انتشرت وحدات من الشرطة العسكرية الروسية في القسم الشرقي من حلب، فيما أشارت مصادر مختلفة إلى عقد مفاوضات بين كل من النظام السوري وقوات "الاتحاد الديمقراطي" لإخلاء حي الشيخ مقصود وباقي المناطق التي تمت السيطرة عليها ودخول المؤسسات الخدمية التابعة للنظام لها، بضمان روسي، على أن تنسحب قوات "الاتحاد الديمقراطي" إلى مناطق سيطرتها في عفرين.
ومقابل ضغوطها على المعارضة السورية للمشاركة في مؤتمر أستانة المرتقب، والتنازل عن الشروط التي سبق لهذه المعارضة أن وضعتها، تمكنت أنقرة من منع "الاتحاد الديمقراطي" من المشاركة في هذه المفاوضات بشكل نهائي.
على الصعيد العراقي، توصلت أنقرة بالتعاون مع طهران إلى اتفاق يقضي بوقف دعم الحكومة العراقية لقوات "العمال الكردستاني" وكذلك وقف التعاون بين الأخيرة وقوات "الحشد الشعبي" الموالية لإيران. وهذا ما بدا واضحاً من خلال تصريحات رئيس الحكومة العراقية، حيدر العبادي، الذي أكد قبل الزيارة التي قام بها بن علي يلدريم إلى بغداد، الأسبوع الماضي، أن بلاده لن تسمح بتحويل أراضيها لمناطق سيطرة مجموعات مسلحة تشكل تهديداً ضد أي من دول الجوار. وجاءت هذه التصريحات بعد أيام من تأكيد أحد أهم قيادات الجناح العسكري لـ"العمال الكردستاني"، مراد كرايلان، بأن قوات "الكردستاني" ستنسحب من منطقة سنجار، الأمر الذي كان أحد أهم العقَد في العلاقة بين بغداد وأنقرة.
وبحسب مصدر مسؤول في الخارجية التركية، فإن الاتفاق مع الحكومة العراقية لا يزال اتفاقاً شفهياً، ولم يتم توقيعه بعد. وأشار إلى أن مصير الاتفاق يتعلق، بشكل أساسي، بالعلاقة بين أنقرة وطهران، وبتطور العلاقات بينهما على عدة أصعدة، وخصوصاً بمجريات ما سيحصل في المفاوضات السورية في أستانة، وفق المصدر التركي. وأضاف أنه "على الرغم من المخاطر التي بات يشكلها توسع حزب العمال الكردستاني ومن ثم تعاونه مع الأميركيين، لكل من طهران وأنقرة، لكن إمكانية إعادة استخدامه من قبل المحافظين والحرس الثوري الإيراني كورقة ضغط إيرانية ضد تركيا لا يزال أمراً ممكناً، على الأقل في المدى المنظور، وهذا يعتمد أيضاً على الدعم التركي المقدم لحكومة إقليم كردستان ضد بغداد"، بحسب المصدر التركي.
وبعد خسارة "الكردستاني" للدعم الروسي إثر تطبيع العلاقات بين موسكو وأنقرة، تعمل الحكومة التركية للدفع باتجاه إنهاء التعاون بين "الكردستاني" وواشنطن في ظل الإدارة الجديدة، وسط تضارب الإشارات الأميركية بشأن ذلك. فبعدما أكد مرشح ترامب لمنصب وزير الخارجية، ريكس تيلرسون، يوم الأربعاء الماضي، أنه يتوجب على بلاده إعادة التواصل مع الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، من أجل التعامل مع الملف السوري، أشار أيضاً إلى أن بلاده ستستمر في التعاون مع القوات الموجودة على الأراضي السورية لقتال "داعش" في معركة الرقة، بما في ذلك قوات "الاتحاد الديمقراطي".
وفي هذا الصدد، قامت القيادة المركزية للقوات الأميركية، يوم الخميس الماضي، بنشر تغريدة لـ"قوات سورية الديمقراطية"، المكونة بغالبيتها العظمى من قوات "الاتحاد الديمقراطي"، على موقع التواصل الاجتماعي، "تويتر". وهذا التصرف أثار غضب تركيا، كما ظهر على لسان المتحدث باسم الرئاسة التركية، إبراهيم كالن، الذي رد على التغريدة، قائلاً: "هل فقدت القيادة المركزية لعمليات المنطقة الوسطى للجيش الأميركي عقلها، هل تظنون أنّ أحداً سيصدّق ما ورد في هذا البيان؟!"، مطالباً الولايات المتحدة بالكف عن محاولة إضفاء طابع شرعي على "الاتحاد الديمقراطي".