بيروت... لا أُحبُّك مرتين

بيروت... لا أُحبُّك مرتين

09 اغسطس 2020
+ الخط -

نحن جيلٌ لم يعرف بيروت جيدًا، بيروت بالنسبة لنا هي النزهة المرفهة، هي المناطق الفارهة، هي حلم العمل ومسير الغياب اليوميّ، هي خواطر مشتاق أمام صخرتها الصلدة، بيروت هي مدينة لا تشبهنا، أبناء المكافحين والطبقات الفقيرة لا يعرفون من بيروت إلا صبرا وشاتيلا، وبعض أزقة الطريق الجديدة وشارع حمد، أو ذلك الطريق الذي يربط السكن الجامعي بالكلية، هي مكان العمل، وعنوان الاستيقاظ الصباحي للآلاف بعد نومة هادئة في الباص والإسراع للعودة والخوف من زحمة السير التي لا تطاق..

بيروت التي فتحنا عيوننا عليها مليئة بغابات الإسمنت المفزعة، عششت في أرجائها الرأسمالية القذرة، حتى أضحى كل ما فيها يسعر بالدولار وحجم الفائدة المادية. بيروت التي لا تهدأ أو تنام، صخبها يُدمي الأذن ويرجف القلب، ولكن بيروت لم تكن على هذه الصورة فقط، إذ هناك بيروت أخرى، أو "بيروتات" ثانية لا نعرفها، ولم نعش فيها..

بيروت القديمة، عادت بعض ملامحها منذ 17 تشرين، ولكنها ملامح مجتزأة مبعثرة، لم تستطع استكمال مشهدية بيروت الحلم، التي بقيت حلمًا عصيًا عن الانبجاس وممتنعًا عن التحقق، تلك المدينة التي تعرّفنا عليها من تسجيلات وقصص من هنا وهناك، وشهادات غير متصلة، وذكرياتٍ أبت أن تضيع في سيل النسيان الواعي الذي نعيشه.

ذكرياتٌ تتحدث عن بيروت الحرية والثورة، بيروت آلاف العاكفين على نظم عقدٍ جديد، نحن جيلٌ لا يعرف بيروت التي تطبع للعالم العربي كله، وما تحتويه أزقتها من دور للنشر تستقطب كبار العلماء والمؤلفين والأدباء، بيروت الثقافة التي يحرص كبار الشعراء على التغني بقصائدهم في محافلها الباذخة، بيروت الثورة، بيروت مواجهة الاحتلال، بيروت المقاومة والفدائيين، بيروت الفقراء والمعترين، وقبلها بيروت القديمة، بأسوارها الوادعة، وبيوتها التي تحفظ أسرارًا وتذيع أخرى، بيروت العادات الجميلة والنسائم الطيبة..= وبينها جميعًا، ومرة أخرى، بيروت الموت والتهجير والقصف والهمجية، بيروت التي ترقص على دماء أبنائها، وتبكيهم مرة أخرى، تلطخ وجهها بهم، ثم تقوم من بين الحطام والردم. وربما لم تكن بيروت كذلك أبدًا، ولكنه حنين اللحظة، وضرب جنون الفقد..

 

ما زلنا في انتظار النجاة القادمة.. أو موجة موت أخرى.. ننتزع الحياة منها كرةً أخرى، أو نمضي مع من مضوا..

 

نعم لم أكن أحب بيروت اليوم، ولم أشعر يومًا بالانتماء لها، مدينة لا تشبهني ولا أشبهها، ولكني منذ أن رأيت أولى صور الانفجار الهائل، لا أدري ماذا انبجس بصدري، شعورٌ مختلف، خوف قديم طوته السنون ظهر فجأة، لا أقول إنني أحببتها الآن، ولكني شعرت بأن هذه المدينة تعني لي شيئًا. صور الدمار تزيد الحنق وترفع الوله، هل حب أوطاننا كامن في نفوسنا ولكن القهر يخنق هذا الحب ويخفيه؟ هل من الطبيعي أن نشعر بالغربة داخل بلادنا ولكن المدلهمات تعيدنا مرة أخرى نحو الجذور، نعود لنحتضن أوطاننا، لو لم تحتضنا هي. لست أدري ولكني أشعر بأنني خسرت شيئًا ما في هذا الانفجار، لا أعرف ما هو، فلي حسرة منسوجة من آلاف الحسرات والدمعات.

أستعير هذه الجملة من قصيدة "بيروت" لمحمود درويش، وأنا الذي لم أحبها للمرة الأولى، ولكن بيروت بالنسبة لي غرائبية الهوى، مجنونة الحركات، مجهولة القسمات، بيروت التي تبحث عن نفسها، وتطبب جراحها، كالأم الرؤوم الملتاعة، تعاني من عقوق أبنائها، أو من تسلق على جذوعها الصلدة، ونخروا فيها خنادق وأخاديد، وغيروا معالمها وطبيعتها، معالم المدينة الحالمة وهويتها الأصيلة المتجذرة.

لن أتحدث عن الفساد أو عن الاستهداف، ماذا جرى؟ ولماذا الآن؟ فلن يتوقف سيل الأسئلة، كلنا مشاهدون للحدث، ومشدوهون مما جرى، مجبرون على التصديق مهما كذبنا ما نسمع وما يجري.. كلنا فقدنا عزيزًا أو حبيبًا، وهناك من يبكي فقد فَقَدَ بيروته مرتين.. أعيد وأعاين صور الدمار الهائلة، ومقاطع الانفجار، تتسارع أنفاسي وأشعر بالانقباضة ذاتها مع كل مقطع. ما جرى فيها لا يشبهه شيء، إلا ما حاق بمدن ودول بعد سنواتٍ من الحروب والقصف، أتذكر كم مررنا في هذا الطريق عند غدونا ورواحنا من العمل، وكم ترافقت مع الزملاء انطلاقًا من نقطة قريبة جدًا من العصف المهول، ولنا في هذا الطريق حكايات وصولات، من هنا مررنا ومن هناك مشينا، ومنذ أسبوع انتظرت أصدقاء أسفل جسرٍ قريب، في نقطة مقابلة للانفجار بعضًا من الوقت، ربما كنت هناك عندما دوت العاصفة.. ربما .. ولكنه قدر الله عز وجل.

في لبنان ومع ما يحيق بنا من مشاكل وأمراض وأوبئة وفساد، لا يعيش الواحد منا حياةً طبيعيّة البتة، بل إننا ننتزع الحياة انتزاعًا، نغالب موتين بأظفارنا الهشة، موت ضمير الحكام وما أكثر الحكام الظلمة، وموت يترصدنا عند كل طريق وفي كل زاوية، عداد القتلى في عالمنا العربي لا يتوقف، كلنا جرحى، وبلادنا تنزف من الاستبداد، وتفقد الأبناء، وبينهما نغرق أكثر وأكثر في مستنقع لا قرار لقاعه.

أختم نزف مشاعري، ما هي المحصلة المفجعة.. عشرات الشهداء وآلاف الجرحى، ومفقودون تبكيهم أمهاتهم في صباحات بيروت الذابلة.. تركت الجريمة جراحًا لن تندمل بسرعة، بل لن تندمل أبدًا، والمجرم حرٌ، والمهمل طليق، والحاكم بأمره يطل على الرعية واضعًا يديه في بنطاله متعجرفًا، ربما وطأ في مسيره بقايا شهيد كان يمني نفسه أن يعود لأولاده يحمل رغيف خبز ساخنًا، وحضنًا دافئًا تبخر مع الأشلاء المتناثرة.. أشباح الموت في لبنان تعددت أشكالها، ولكن القاتل واحد، يرفدها بكل أدوات القتل والتهميش والإفساد.. وما زلنا في انتظار النجاة القادمة، أو موجة موت أخرى، ننتزع الحياة منها كرةً أخرى، أو نمضي مع من مضوا..
رحمهم الله تعالى، وجبر كسر ذويهم، وكسرنا..

 
31613475-73A0-4A3D-A2F9-9C1E898C5047
علي حسن إبراهيم

باحث في مؤسسة القدس الدولية. كاتب في عدد من المجلات والمواقع الالكتروية. عضو رابطة "أدباء الشام".