باتريك موديانو.. كاتب الزمن الضائع

11 أكتوبر 2014
(تصوير: أوليفيي روليه)
+ الخط -

بعد ساعتين فقط من إعلان الأكاديمية السويدية فوزه بـ"جائزة نوبل"، بدا باتريك موديانو مرتبكاً ومذهولاً خلال المؤتمر الصحافي الذي نظّمته أمس الأول "دار غاليمار"، ناشرة أعماله منذ روايته الأولى الصادرة عام 1968. "هذا الفوز يبدو لي غير معقول وأتمنى أن أعرف لماذا حصلت على "نوبل". عليهم أن يوضحوا لي الأسباب التي دفعتهم لاختياري"، قال موديانو لعشرات الصحافيين المتكدّسين حوله والذين أمطروه بوابل من الأسئلة، ما جعله يردّ أحياناً كيفما اتفق. "لدي قرابة مع السويد لأن حفيدي سويدي الجنسية، وأهديه هذه الجائزة..." قال أيضاً وهو يفرك عينيه محتمياً من ضوء الكاميرات وعدسات المصوّرين.

ناشره أنطوان غاليمار بدا أكثر سعادة منه وأقل ارتباكاً، وقال بفخر أمام العدسات: "كنا نظّن أننا سننتظر 30 عاماً بعد فوز جان ماري لوكليزيو بـ"نوبل" (2008). عادةً ما تُمنح الجائزة للأعمال التي تعكس الأحداث التاريخية الكبرى، لكنهم اختاروا هذه المرة مُنجَزاً روائياً في منتهى الحميمية والغموض".

توصيف الناشر كان صائباً، فموديانو كاتب حميمي بالدرجة الأولى، ورواياته القصيرة ذات الأسلوب الحلمي المتقشف، المسكونة بحنين غامض لماض صعب الالتقاط؛ تبدو وكأنها تنويعات هستيرية على الثيمة نفسها، أي الذاكرة ومسالكها المتشعبة وضياع التفاصيل الصغيرة في دروب الحياة. وقد راكم الرجل أكثر من 30 رواية تناولت في غالبيتها موضوع الذاكرة وطبقاتها، كأنها نوتات منفصلة، لكن متجانسة ومتكاملة، من معزوفة طويلة ينبش فيها الكاتب بصبر وتؤدة في ذاكرة العالم المحيط به.

غير أن الغموض الذي يلفّ مصائر شخصياته، والعتمة التي تظلل عوالم رواياته، لا يؤثّران على اللغة والأسلوب. إذ لا مجال في نصوصه للبلاغة الزائدة أو الاستعارات الشعرية الثقيلة. موديانو، وهنا مكمن قوته، يكتب بلغة بسيطة وسهلة وواضحة، ما جعله كاتباً في متناول القارئ العادي من دون أن يفقد قيمته الأدبية في أعين النقاد والعارفين. ورغم أنه ليس كاتباً شعبياً أو "جماهيرياً"، فإن أعماله الروائية تباع بسهولة ولها قرّاؤها الأوفياء الذين يقبلون على رواياته بشكل شبه غريزي، ذلك أنهم يعرفون سلفاً ما سيقرؤون: القصة نفسها، الحنين ذاته، الغموض اللذيذ والدافئ نفسه.

وهناك ميزة أخرى تحبل بها رواياته: وصف دقيق للغاية لباريس وحاراتها، وتصوير فريد، بالأبيض والأسود دائماً، للأزقة والساحات. نقول هذا لأنه يمكن للقارئ أن يحفظ عن ظهر قلب جغرافيا باريس من خلال رواياته. جغرافيا شخصية وحميمية، لكنها واقعية جداً، تماماً مثلما فعل جيمس جويس في روايته "عوليس"، حيث رسم خريطة لمدينة دبلن. لكن موديانو، من هذه الناحية، يبقى أقرب إلى مارسيل بروست، فجميع أعماله الروائية تصلح لأن تكون نصاً واحداً يحمل عنوان رواية بروست الشهيرة ذاته، "البحث عن الزمن الضائع".

ثمة ميزةٌ أخرى تسم أعمال الكاتب، ونقصد شخصياته التي تبدو دائماً مبتورة وقلقة؛ هويتها ناقصة ومشدودة إلى تفاصيل ضائعة في ماض سحيق. في كل رواياته تقريباً، نجد أنفسنا أمام أبطال لا مجد لهم، يرمّمون قدر المستطاع ذاكرة مثقوبة. أما فضاء سرده فيتأرجح بين الضوء الساطع والعتمة الخافتة، حيث تزدهر الأسرار وتنمو كالحشائش الرعوية.ليس من المستغرب إذاً أن النقاد والصحافيين الفرنسيين نحتوا، منذ عقدين، نعتاً جديداً: "موديانيسك". نعتٌ يحيل مباشرة إلى عوالم موديانو الموسومة بالغموض والحنين والفقد الموجع.

بعض النقاد تذمّروا من تكراره ثيمة الحنين الغامض، لكن الكاتب لا يعير الأمر أدنى اهتمام، بل إنه يقرّ بهوسه في هذه العوالم، معتبراً إياها المحرك الأساسي للكتابة. كشف أحد نقاد مجلة "لكسبرس" ذات مرة أن خمس شخصيات "موديانية" في خمس روايات مختلفة تمتلك رقم الهاتف نفسه. هكذا هو الكاتب الفرنسي؛ لا يغادر أرضية مخيّلته، بل يضيف إليها، بين رواية وأخرى، طبقة خفيفة جديدة تزيدها سماكة.

روايته الأخيرة التي صدرت الأسبوع الماضي بعنوان "مودياني" بامتياز: "حتى لا تتيه في الحي"، نقرأ فيها القصة ذاتها، لكن بأسلوب أكثر ميلاً إلى عوالم الروايات البوليسية. رواية تتضمن أيضاً عناصر كثيرة من سيرته الذاتية، نستشفّها عبر شخصية جون داراغان، وهو كاتب ستيني يعيش في عزلة تامة عن العالم، تأتيه مكالمة هاتفية غير متوقعة من شخص يخبره بأنه عثر على مفكرته بالصدفة وأنه تعرّف إلى شخص في هذه المفكرة يدعى غي تورستيل، وهو رجل غامض متورط في جريمة قديمة ذات وقائع غريبة.

موديانو معروف أيضاً بحبه الحياة بعيداً عن الأضواء. يعيش في الدائرة الخامسة التي يحب التجول ليلاً في حاراتها الضيقة، ونادراً ما يظهر في الإعلام، مفضّلاً الانزواء، حاله كحال شخصياته. لكن نيله "نوبل" سيقلب حتما هذه المعادلة، وسيضطر الكاتب إلى التعايش مع الأضواء، مثلما فعل بصعوبة يوم الإعلان عن الجائزة في مؤتمر صحافي كاد أن يفقده النطق.

دلالات
المساهمون