انتخابات البرلمان الأوروبي .. تفوق للقوميين واليسار ثانياً

انتخابات البرلمان الأوروبي .. تفوق للقوميين واليسار ثانياً

29 مايو 2014

صحفيون يتابعون إعلان نتائج انتخابات البرلمان الأوروبي(مايو 2014 أ.ف.ب)

+ الخط -
أوجدت تبعات الأزمات الاقتصادية التي عانت منها دول المنظومة الأوروبية واقعًا سياسيًا جديدًا، تمثّل في تراجع قيم التسامح والديمقراطية، والمسارعة بالبحث عن بدائل وتعديل موازين القوى السياسية. وقد تمكن اليمين الأوروبي ممثلاً بحزب الشعب من قيادة البرلمان الأوروبي، طوال السنوات الخمس الماضية، بفارق واضح، مقارنة مع كتلة الاشتراكيين، لكن هذه النسبة تراجعت إلى نحو 20% في الانتخابات الأوروبية أخيراً، ليرتفع نجم الأحزاب القومية الداعية إلى مكافحة عمليات الهجرة الداخلية من الدول الفقيرة إلى الدول الغنية، بهدف تحسين الأوضاع المالية، وللحصول على الضمانات الاجتماعية، شبه المجانية في بريطانيا وفرنسا وألمانيا وهولندا وبلجيكا وغيرها من الدول الأوروبية، ذات المستوى الاقتصادي المتقدّم.
توقع مراقبون دوليون عديدون فوز زعيم حزب الاستقلال البريطاني، نايجل فرج، والذي حقّق فوزًا بنسبة 27.5%، لكنهم لم يتوقعوا هذا الفوز الساحق، وتمكن فرج، بالتالي، من الحصول على 23 مقعدًا في البرلمان الأوروبي، ولم يكن ممثلو حزبه قد تجاوزوا، في التشكيلة السابقة للبرلمان، 13 مفوّضًا. وتتمثل الخطوة التالية المتوقعة من السيد فرج بتنظيم استفتاء شعبي لمعرفة توجهات الشعب البريطاني وآرائه، بشأن انفصال بريطانيا عن الاتحاد الأوروبي، وعزلها عن فضاء "شنغن" لمنع تدفّق المزيد من المهاجرين الأوروبيين من بولندا وبلغاريا ورومانيا تجاه الجزيرة، علمًا أنّ المهن والأشغال التي يقومون بها لا تتعارض مع التي يتولاها عادة المواطنون البريطانيون.

وسيتمكن الحزب الوطني الديمقراطي الألماني النازي، كذلك، من إرسال مندوبيه في قوام البرلمان الأوروبي الجديد، بعد خفض عتبة الترشّح في الانتخابات الأخيرة في ألمانيا إلى 1% فقط. في المقابل، تراجعت شعبية الحزب الليبرالي الألماني إلى مستويات غير مسبوقة، ولن يتمكن من إرسال سوى ثلاثة مفوضين، علمًا أنّ عدد نوابه في البرلمان السابق بلغ 12 نائبًا، كما تراجعت معدلات الدعم للحزب الديمقراطي المسيحي، بزعامة أنجيلا ميركل، بنسبة ضئيلة 2%، ويبلغ عدد ممثليها في البرلمان الجديد 29 مفوّضًا.

وتحصد مارين لوبن زعيمة الجبهة الوطنية في فرنسا، ذات التوجهات القومية، 25% في هذه الانتخابات لتصبح القوة السياسية الأولى، وتطالب، على الفور، الرئيس الاشتراكي، فرانسوا هولاند، بإجراء انتخابات برلمانية جديدة، لرفع الظلم عن حزبها الذي يمثله نائبان فقط في البرلمان الفرنسي في تشكيلته الحالية، علمًا أن الانتخابات المقبلة ستجري دوريًا في العام 2017.

القارة الأوروبية وأعباء الانفتاح

تفيد بيانات استطلاع الآراء في دول أوروبية عديدة بأنّ شعوب دول أوروبا الغربية لا ترغب بهجرة المزيد من مواطني شرق أوروبا ووسطها، لاعتقادهم أنّ فئات المهاجرين بحثًا عن فرص العمل ينافسونهم على لقمة العيش، ويعملون على رفع معدّلات البطالة، ويقبلون بأجور أقلّ بكثير من الأجور الوطنية المتعارف عليها، وبات مؤكّداً أنّ أوروبا تسير بسرعتين متباينتين، بل ويمكن ملاحظة انقسام القارة الأوروبية إلى جنوب وشرق فقيرين، مقابل الغرب الثريّ المشبع والمتخم، ولا يمكن مقارنة النمو الاقتصادي في ألمانيا وفرنسا وبريطانيا، على سبيل المثال، مع النمو البطيء للغاية في اليونان والبرتغال وإسبانيا وإيطاليا ورومانيا، وغيرها من الدول، الحديثة العهد بسياسة اقتصاد السوق.

لذا، كان من السهل لفرج ولوبن مخاطبة البريطانيين والفرنسيين بثقة غير مسبوقة، والمطالبة بالحصول على مزيد من السلطة على الصعيد الوطني، وعلى منصّة البرلمان الأوروبي المقبل، والبدء بفرض أجندة مناهضة للتنقل الحرّ للمواطنين الأوروبيين، بل وإعادة النظر في اتفاقية شنغن، وحرمان دول عديدة في شرق أوروبا ووسطها من ممارسة العمل بحرية فوق أراضيها. وقبل الانفتاح الكبير والواسع للمنظومة الأوروبية، استقبلت الدول الغنية الخبراء والإخصائيين الشرقيين برحابة صدر، للاستفادة من تجاربهم المهنية، من دون صرف مئات آلاف الدولارات، لتأهيلهم أطباء ومهندسين وخبراء حاسوب وبرمجة واقتصاديين، لكن الصورة اختلفت تمامًا إثر الانفتاح مع نهاية تسعينيات القرن الماضي، وواجهت حكومات الدول الغربية مئات آلاف العاطلين عن العمل والمتسولين والنشالين والغجر.

من جهة أخرى، كان لأحداث الربيع العربي تبعات وأثر كبير في التوجهات الأخلاقية للمجتمعات الأوروبية وتراجع قيم التسامح، لأنّ العبء الاقتصادي بات كبيرًا، ويأتي على حساب المواطن الأوروبي المتوسط الحال، ما أدّى إلى ظهور أحزاب قومية، تحثّ على كراهية الأجنبي، وتسعى إلى التطهير العرقي، والتخلّص من الآسيويين وأصحاب البشرة الداكنة والسمراء.

اليسار الأوروبي والخطاب الاجتماعي

على الرغم من أنّ اليسار الأوروبي حقق فوزًا يفوق بكثير نتائجه في الانتخابات السابقة عام 2009، فإنه يبقى القوّة السياسية الثانية على الصعيد الأوروبي، وقد تمكن الحزب الاشتراكي الديمقراطي في رومانيا، بزعامة رئيس الوزراء فيكتور بونتا، من تحقيق فوز ساحق بنسبة 43%، وبهذا سيرسل 16 مفوضًا يساريًا إلى البرلمان الأوروبي، خلافًا للهزيمة الساحقة التي تكبدها الحزب الاشتراكي البلغاري الذي حقق 19% فقط، وسيرسل أربعة مفوضين إلى البرلمان الأوروبي مقابل ستّة للحزب اليميني "غيرب"، وأربعة للحزب الليبرالي "حركة الحقوق والحريات"، الناطقة باسم الأقلية المسلمة من أصول تركية في البلاد.

وتأتي أهمية نتائج الحزب الاشتراكي البلغاري لمنصب زعيمه، سيرغي ستانيشيف، فهو يحتلّ كذلك منصب زعيم الاشتراكية الأوروبية ونائب زعيم الاشتراكية الدولية. لذا، فإن هزيمة ستانيشيف جاءت مؤلمة للغاية، وهو الذي سعى جاهدًا إلى حثّ بروكسل على دعمه، وقدّم وعودًا كثيرة للفوز في بلغاريا، لتأتي النتيجة مخالفة كل التوقعات، وحتى لليمين البلغاري. تعود الأسباب في هذه الهزيمة إلى فشل حكومة بلامن أوريشارسكي، وعرّابها سيرغي ستانيشيف، في إيجاد حلول عاجلة للمشكلات الاقتصادية ومكافحة البطالة المتفاقمة.
ويبدو الخطاب اليساري الأوروبي متناقضًا، فمن جهة، يسعى إلى رفع معدلات النمو الاقتصادي في الدول الأوروبية، ومكافحة البطالة ورفع مستوى الأجور والمستحقات الاجتماعية للمواطن الأوروبي. وفي الوقت نفسه، يرى أنّ رفع معدلات العجز المالي لمعدلات تفوق عتبة 3% المسموح بها في المنظومة الأوروبية، لتقديم مزيد من المكافآت المالية والضمانات الاجتماعية، والحصول على مزيد من القروض البنكية، لتحقيق هذه الغاية، ما يتناقض مع التوجهات الاقتصادية لليمين الأوروبي، الرافض سياسة المديونية الفائضة، والداعي إلى فرض غرامات مالية وإدارية للدول الأوروبية التي لا تلتزم بهذه المتطلبات والمعايير.

اللجنة الأوروبية – صلاحيات واسعة

أعلن رئيس وزراء لوكسمبرغ السابق، جان- كلود يونكر، فوز حزب الشعب اليميني الأوروبي في الانتخابات الأوروبية بـ 214 مقعداً مقابل 190 مقعدًا لصالح الاشتراكي الأوروبي PES، وقال، في أول تصريحاته، إنّه لن يتنازل عن رئاسة منصب رئيس اللجنة الأوروبية ذات الصلاحيات الكبيرة، وسيلجأ إلى التحالف مع الليبراليين وحزب الخضر، وحتى مع الأحزاب الاشتراكية، للفوز بالمنصب. وقد أصر منافسه الاشتراكي، مارتن شولتز، كذلك على خوض النزال مع يونكر، للفوز بهذا المنصب الشديد الحساسية والأهمية، موضحًا أنّ الفارق في الأصوات والمقاعد مع اليمين الأوروبي تقلّص، وتراجع إلى مستوى يسمح بإتاحة المجال لفوز الاشتراكية الأوروبية بالمنصب.

وتمتلك اللجنة الأوروبية آليات الرقابة المالية للصندوق الأوروبي، المانح للمساعدات المالية للقطاعات الحيوية المختلفة في المنظومة الأوروبية، ويمكنه لعب دور مهم بشأن ضمّ دول أوروبية جديدة للاتحاد، وضمّ مزيد من هذه الدول إلى اتفاقية شنغن، ويقوم بمهام عديدة كترؤس المحادثات المختلفة، باسم دول أوروبية، مع دول خارج الاتحاد، مثالاً على ذلك توكيل اللجنة للتفاوض وإجراء محادثات مع شركة غازبروم الروسية العملاقة، بشأن مشروع "دفق الجنوب" لنقل الغاز الروسي عبر الأراضي الأوروبية، ومناقشة القوانين التي تمنع امتلاك الخط للجهة المزودة للغاز الطبيعي، للحيلولة دون ممارسة الاحتكار.

وتبدو التركيبة الحزبية للبرلمان الأوروبي متنوعة، من اليمين الوسط والمعتدل والمتطرف واليسار والليبراليين وحزب الخضر والمحافظين والمستقلين. برلمان قادر على استيعاب أطياف المجتمع الأوروبي، والعمل على تحقيق طموحاته، ورفع مستوى الحياة، وتحقيق النمو الاقتصادي. انتخابات دورية كلّ خمس سنوات فقط لا تنقص ولا تزيد بيوم، يتنحّى قادته ورؤساء مؤسساته فور انتهاء ولايتهم، لإتاحة المجال لممثلي الشعب الجدد لنيل المناصب الأوروبية، من دون اللجوء إلى العنف واستخدام الأسلحة والبراميل المتفجرة للبقاء في السلطة بأيّ ثمن، ورغمًا عن إرادة الشعب، والمطالبة باستبدال الشعب، ليتناسب مع شروط ومواصفات السلطة.

المفارقة هائلة ما بين الواقعين الأوروبي والعربي، لكنّي أحافظ على تفاؤلي، آخذًا في الاعتبار أنّ هذه الدول خاضت حروبًا عالمية طاحنة فيما بينها، قبل نحو سبعين عامًا، سقط على إثرها عشرات الملايين من الضحايا، لكنّها تمكنت، في هذه الفترة الزمنية القصيرة، من تجاوز كل هذه الخلافات، وتحقيق المعجزة بتأسيس "الاتحاد الأوروبي"، علمًا أنّ اللغات الأوروبية مختلفة، وكذلك الانتماءات السياسية والعقائدية. ويبقى المواطن في القارة الأوروبية الرقم الصعب، وغير مسموح لأيّ حزب، أو تنظيم سياسي، تجاوز مصالحه.   
59F18F76-C34B-48FB-9E3D-894018597D69
خيري حمدان

كاتب وصحفي فلسطيني يقيم في صوفيا. يكتب بالعربية والبلغارية. صدرت له روايات ودواوين شعرية باللغتين، وحاز جائزة أوروبية في المسرح