الوسط الميت.. من بيروت إلى بغداد والقاهرة ودمشق

الوسط الميت.. من بيروت إلى بغداد والقاهرة ودمشق

12 سبتمبر 2014
وسط بيروت فارغًا (Getty)
+ الخط -
لا شيء هنا، في الأسواق بالغة الفخامة، سوى البائعات الضجرات والواجهات اللامعة. لا شيء في كلّ هذا الفضاء المفرط الأناقة سوى الهجران والمساحات الخالية من الناس. لا شيء في قلب المدينة، الذي يمكن اعتباره تحفة معمرانية قلّ نظيرها، سوى الشعور بالفراغ.

وسط بيروت التاريخي، الإنجاز الهندسي الأبرز والأجمل، بكلفته المليارية وطموحاته الكوزموبوليتية، الباذخ والمتقن ليكون فائق الجاذبية السياحية والاستثمارية، الذي يصنع صوراً وخيالات لأنماط العيش الأشدّ رفاهية وعصرية، والذي يلبّي كلّ التصورات عن مدينة عريقة ومتألّقة ومستعدّة للمستقبل، ها هو اليوم متروكاً خالياً، بالكاد تعبره إشارات الحياة.

بعد العام 2000، تحوّل الوسط التجاري المنبعث من رماد الحروب إلى قبلة للسياحة العربية. عادت بيروت عاصمة سياحية من الطراز الأول، يأتيها من يريد أن تكون سياحته عنواناً للتباهي والبذخ وبهجة السهر الليلي، والنهارات المترفة. كان ذلك يحمل وعوداً سياسية أيضاً: تكريس السلم الأهلي، إعادة إعمار لبنان كله، استعادة العصر الذهبي للستينيّات والسبيعنيّات، الازدهار الاقتصادي وفرص العمل والترقّي الاجتماعي، وتجديد أدوار العاصمة التجارية والثقافية، إقليمياً ودولياً.. وكانت أيضاً وعوداً معطوفة على آمال المنطقة: السلام العربي الإسرائيلي، الانفتاح على العالم، التنمية والاستقرار، واستثمار عائدات النفط في تأهيل العالم العربي لزمن العولمة.

سنوات قليلة، وصارت الوعود تتبدّد واحدة بعد الأخرى. والوسط الذي تم بناؤه ليكون جاهزاً كدبي أو هونغ كونغ أو استانبول، أصبح هكذا كشاب يشيخ على ناصية الانتظار، كغرض ثمين لا ندري لأيّ شيء نستعمله. ثمين ولا وظيفة له.

لا ندري كيف لمحلّ يتطلّب ديكوره عشرات الألوف من الدولارات، واستئجاره سنوياً بكلفة موازية، ورواتب موظفيه بآلاف الدولارات، وببضائع باهظة الثمن، وطاقة تشغيلية يومية تستهلك صيانة وكهرباء وتنظيفاً وأكلافاً إضافية.. كيف لها أن تبقى هكذا مفتوحة أشهراً من دون أن تبيع شيئاً؟ أن نجد مطعماً بسعة مئتي شخص، وبالكاد يستقبل زبونين، ويظلّ مفتوحاً، ينتظر من غير طائل أن تدبّ الحياة هنا؟

لا أحد تقريباً هنا. لا سكّان في مئات الشقق التي يفوق ثمن الواحدة منها المليوني دولار أميركي. لا موظّفين في عمارات المكاتب والشركات.

منذ العام 2007، انتهى الازدهار السياحي العابر، وسقط وسط بيروت في الغيبوبة. حاصرته جحافل "حزب الله" لعامين تقريباً، حتّى تحول إلى خلاء قاحل. مرّت حرب العام 2006، مرّت محنة مايو/أيّار 2008 التي كادت تتحوّل فتنة، مرّت الاغتيالات السياسية الكثيرة وآخرها اغتيال الوزير محمد شطح في وسط بيروت (2013)، مرّت أزمات سياسية وأمنية جعلت الدول تأمر رعاياها بعدم السفر إلى لبنان. وانتهت الوعود جميعها.

شركة "سوليدير" التي تولّت إعمار الوسط، إذ تحاول أن تحيي تلك المنطقة بحفلات موسيقية ومهرجانات فنية، تبدو محاولاتها دليلاً إضافياً على غياب الحياة هنا، كمن يفتعل "مناسبة" ليأتي الناس إليه. فما إن ينتهي الحفل حتّى يعود الصمت والخواء. وفي أحسن الأحوال تحوّل الوسط إلى فرجة بدل أن يكون مكاناً للسكن والعمل والعيش كأيّ جزء حيّ من المدينة.

تعوّدنا أن "نزور" وسط بيروت وحسب، إذ ظلّ هكذا خارج خريطة حركتنا، وخارج مدار قضاء حوائجنا وأعمالنا. نذهب إليه يوم الأحد مثلاً، لنراه مطرحاً رحباً يحلو للأطفال اللهو فيه، كأنّه حديقة عامة. نجيل نظرنا لنرى تلك الفخامة مغلّفة بالكآبة، لنرى أيضاً من وراء كلّ تلك الأبنية التراثية الكاملة الأبهة، الوعود الميتة.. الآمال المقتولة عمداً.

لبنان الواقف على حافة الفتنة المذهبية، بين شيعة وسنّة، بمسيحييه الخائفين والمتخاصمين، بدولته المشلولة أو المخطوفة، بعجزه المتفاقم بؤساً لمواطنيه كما للاجئين إليه (باتوا ثلث السكّان تقريباً)، بلا قدرة على إنتاج كهرباء أو توفير الماء أو تأمين مدارس، المهدّد عند الحدود الجنوبية بإسرائيل، وعند الحدود الشمالية بـ"داعش"، وبإرهاب السلاح في الداخل، المنفلت أمنياً... هذا الـ"لبنان" لا حاجة فيه لوسط تجاريّ مثل هذا. فهو تذكار لحلم بات كابوساً.

موت وسط بيروت، كما خراب وسط بغداد، واهتراء وسط القاهرة، ودمار دمشق.. علامات انهيار تاريخ "الدولة الوطنية" وعمرانها. 

دلالات

المساهمون