النميمة التي فقدها السوريون

النميمة التي فقدها السوريون

20 يونيو 2020

(لؤي كيالي)

+ الخط -
كل يوم تقريبا، تجتمع عائلتنا على تطبيق الماسينجر، صوتا وصورة، حوالي السادسة مساء، أمي وخالتي من سورية، أختى من فرنسا، ابنتي من ألمانيا، ابنة خالتي من سويسرا، وشقيقها، أحيانا، من تركيا، وأنا من مصر. وما نحن فيه ليس استثناء. هذا حال الغالبية العظمى من العائلات السورية. باتت تطبيقات الاتصالات الافتراضية بمثابة بيت العائلة الذي يجتمع فيه أفرادها كل مساء على فنجان القهوة أو الشاي أو المتّة، وتبدأ الأحاديث، النمائم طبعا جزء مهم من اجتماعات العائلات، فلا يكتمل الطقس العائلي بدونها، غير أنه في زمن التباعد المفروض على السوريين منذ ما قبل كورونا بسنوات، تبدّلت مفردات النميمة، فلم يعد أحد يقول: "فلان عشقان على مرته"، أو "فلانة متقاتلة هي وحماتها"، أو "مو معقول أم فلان ما أبخلها مع إنو بتطمرنا بالمصاري، اشترت نص أوقية لحمة لتحطها بالمحشي، قال المهم الطعمة". وعلى هذا المنوال من النمائم التي كانت بمثابة التسالي المسائية للسوريين، قبل بدء تباعدهم العظيم منذ سنوات. صارت النمائم اليوم عمومية، لم يعد الشخصيُّ يحتل منها إلا الجزء القليل، حال البلد ووضع المهحرين والمعتقلين والشهداء، و"الأزمة" كما يسميها السوريون في الداخل، و"الثورة" كما نسميها نحن الذين في الخارج، أما "الشوإسمو"، أو "المايتسماش" حين نقولها بالمصري مازحين، فهي مفرداتٌ تستخدم حين يكون في الحديث بعض الخطر على من هم في الداخل. دخلت التورية إلى نمائم العائلات والأصدقاء في لقاءاتهم الافتراضية، وللغتنا العربية خصائص مدهشة في استبدال المفردات وتورية المعاني، والخوف يستفز الخيال لالتقاط ما يواربه الكلام من معنى. هكذا أصبح السوريون في أحاديثهم الافتراضية، حين يكون بعض المشاركين يعيشون، في سورية أو في العالم العربي، مختصين بعلم التورية الكلامية، حين تبدأ النميمة على الوضع العام. 
بعد كورونا صارت اللقاءات الافتراضية تبدأ بآخر أخبار الفيروس، واستعراض عدد الإصابات وضحايا الوباء في البلدان التي نعيش فيها، وتوصياتٍ وتحذيراتٍ بالانتباه، وعرض آخر ما توصلت إليه مراكز الأبحاث والعلماء بخصوص تحولات الفيروس وتجلياته. صارت اللقاءات العائلية الافتراضية بمثابة نشرة أخبار، أو صفحة إلكترونية مختصة بشأن الفيروس، لولا أخبار جانبية خاصة، ولولا ظهور الأحفاد في المشهد، وظهور القطط البيتية التي تتشارك عائلتنا الاهتمام بتربيتها حاليا! ثم يبدأ الحديث عن الوضع المعيشي المتردّي في سورية، وعن الغلاء الفاحش الذي يستنفزّ كل شيء، بما فيها أعصاب من يعيشون في الخارج وأرواحهم. تقول أمي إنها ذهبت أمس لشراء ما يكفي صحن سلطة خضراء وبعض الفاكهة المحلية، دفعت ما يقارب عشرين ألف ليرة سورية، أي أقل قليلا من نصف معاشها التقاعدي! سأعترف أنني لست قادرة على استيعاب هذه الأرقام. حين خرجت من سورية، وقبل فصلي من وظيفتي لأسباب أمنية، كان راتبي ستة عشر ألف ليرة سورية، لم يكن يكفيني حتما أنا وابنتي، لكن الآن ثمّة ما هو فلكي في الأسعار المتداولة. أمي تعيش وحدها، كيف هو حال العائلات إذا؟! ثم يتتابع الحديث عن أرقام فواتير الكهرباء، المختفية أصلا، وعن عصابات السرقة والخطف، وعن العجز في السيطرة عليها، أخبار تجعل من اللقاء اليومي مع العائلة بمثابة التعذيب النفسي لنا، نحن من نعيش خارج تلك البلاد التعيسة، وعاجزون عن فعل أي شيء سوى القهر.
هل قلت فيما سبق ما هو استثنائي وخاص؟، أجزم: لا. .. هذا مثل صغير وبسيط عن حال السوريين، ثقوا أن هذا الحديث العائلي اليومي هو شأن السوريين جميعا، لم يعد هناك ما يمكن للسوريين أن يتحدّثوا عنه سوى القهر والخوف والوحدة والتخلي والموت والعجز، لم تعد النميمة من تسالي اللقاءات العائلية، صارت ترفا، مثل اللوز أو الجوز السوري الذي وصل سعره إلى أرقام خيالية. لم تعد حتى ملح هذه اللقاءات، إذ أصبح الملح ذاته أغلى من قدرة السوريين على الإنفاق. لم يتأثر السوريون في الداخل كثيرا بتغيير تفاصيل الحياة بعد فيروس كورونا. لم يخافوا منه كما باقي البشرية، ليس لأن مناعتهم عالية، بل لأنهم يدركون أنه لن يكون أشد قسوةً من ظروف حياتهم، حياتهم تحت سقف الوطن الذي تحوّل إلى منفى وسجن ومقبرة تتسع يوميا ليس فقط لأجساد السوريين، وإنما أيضا لأحلامهم ولأمانيهم ولسلامهم ولكرامتهم، مقبرةً تتسع لفكرة الوطن ومعناه، بعد أن تمكّن الاستبداد من الفتك بها فتفسّخت تماما ولم يبق إلا دفنها بجانب أجساد السوريين.
BF005AFF-4225-4575-9176-194535668DAC
رشا عمران

شاعرة وكاتبة سورية، أصدرت 5 مجموعات شعرية ومجموعة مترجمة إلى اللغة السويدية، وأصدرت أنطولوجيا الشعر السوري من 1980 إلى عام 2008. تكتب مقالات رأي في الصحافة العربية.