النظام العربي والغلو الأميركي

06 ديسمبر 2014
+ الخط -

كان جدّي عبداً. ذلك هو حزني. ولو كان سيّداً لكان ذلك عاري. (جوليادي بورحوس)

تتعاقب الهيمنات، ولا تتشابه، والهيمنة التي اختارت إدارة بوش (الأب) توكيدها عن طريق حرب الخليج الثانية، ترتكز، أساساً، على نشر القدرات العسكرية، على الرغم من أنّ الولايات المتحدة، كما هو معروف، لم تعد تحتلّ موقعها الاقتصادي نفسه لما بعد الحرب العالمية الثانية مباشرة تجاه منافسيها الرئيسين (اليابان وألمانيا خصوصاً)..

واليوم، ها نحن،اليوم، نعيش في ظل إمبراطورية أميركية، متخمة برائحة البارود، نراها ديناصورية، تحاول، في عصر انقراض الإمبراطوريات القديمة، أن توحي لغير العاقلين أنّ الديناصور الأميركي سيأكل العالم كله، ولن يصاب بأذى، إلا أنّ هذا التوهّم الأميركي للأميركيين وحلفائهم لا يجوز أن ينطلي على أعدائهم، وفي مقدمتهم العرب، وليس لي أن أدخل في تشريح البنية الديناصورية للإدارة الأميركية الراهنة، فهي تحتاج دراسات مختصة وخاصة، غير أنّ التقدّم الذي تدعي الولايات المتحدة إحرازه في منح الشعوب من تقدمها سوف يرتدّ عليها عبر مقومات عالمية قوامها: البقاء أو الانقراض، ذلك أنّ التاريخ يثبت، وعلى عكس أوهام نزلاء البيت الأبيض، أنّ الهيمنة قصيرة الأمد، دوماً، وذلك، على وجه التحديد، لأنّها تولد اضطرابا دائما..
أردت القول إنّ حرب الخليج لسنة 1991 برهنت على أنّ القانون الدولي والمشروعية الدولية لم تكن إلا أغلفة خارجية برّاقة للإرادة الأميركية في ضرب العراق، لاعتبارات تتعلّق بالهيمنة السياسية والاقتصادية، لمصلحة أميركا بالذات، سواء فيما يخص الاستيلاء على منابع النفط العربي والتحكّم فيها، انعاشا للاقتصاد الأميركي وتحكّما في الوثبة الاقتصادية الجديدة في آسيا وأوروبا، وفيما يخص قطع الطريق على أيّة محاولة لتحقيق توازن عسكري في المنطقة مع إسرائيل.. ومن هنا، عشنا منذ عقد، وتحديدا قبيل احتلال العراق، سيناريو مماثل لذلك الذي طبّق في أزمة الخليج، وهو سعي أميركي محموم إلى استصدار قرارات من مجلس الأمن تضفي الطابع القانوني المزعوم على إرادة سياسية أميركية وبريطانية، تهدف إلى إبادة الشعب العراقي، وتحويل بغداد إلى مداخن ومدافن، بحجة امتلاك القيادة العراقية السابقة أسلحة الدمار الشامل.

هذا يعني أنّ أميركا تتصرّف على أساس أنّ العصر الأميركي قد بدأ (!). لذا، فهي تتجاهل الأمم المتحدة، وتقلّص دور مجلس الأمن، ولا تتورّع عن إضعاف مركز الأمين العام، كما تستهين بالمجموعات الدولية، وتتحلّل، من دون خجل أو وجل، من اتفاقيات سبق الالتزام بها، ولم تعد، بالتالي، تعطي أي اهتمام حتى بحلفائها وأصدقائها. وهذا التعالي لم يكن فقط في شؤون الشرق الأوسط، بل وفي أهم الشؤون العالمية، فقد أثارت أميركا الروس بموقفها من جدار الصواريخ، وأغضبت حلفاءها في أوروبا واليابان وآسيا، برفضها اتفاقية كيوتو حول البيئة، وأذهلت العالم بموقفها في مؤتمر"دربان"، وانسحابها وحيدة مع إسرائيل.

إذن، تبيّن أنّ الكوابح التي لجمت السياسة الأميركية عن غرائزيتها، في حقبة الحرب الباردة، انهارت تماما لتطلق تلك الغرائزية من كل عقال، ولترفع من معدّل الشعور الظفروي الأميركي إلى حد جنوني، ما جعل سياستها الخارجية تتسم بدرجة عالية من الاستهتار بالرأي العام العالمي، وبدول العالم كلها، بما فيها دول صديقة لها، أو حليفة، ما عدا الكيان الصهيوني، بل من الاستهتار بالمنظومة الدولية نفسها، حيث كانت تتعامل واشنطن معها، بانتقائية وبمعايير مزدوجة، فتبالغ في دعوة العالم إلى الانصياع لقراراتها حينا، وتتجاهل وجودها تماماً، حينا آخر، تتحرّك طورا باسم الأمم المتحدة، وتارة باسم الأطلسي.

واليوم، ها هي الإمبراطورية الأميركية تمضي في غيّها. وها هي، كذلك، الحكومات العربية تمضي في خنوعها، وفي ذلها، في تعاملها مع واشنطن، الأمر الذي يدلّ، في مجموعه، على أنّ الولايات المتحدة مصرة، في المدى المنظور، على خوض مغامرات أخرى، يصعب التكهن بنتائجها، لإعادة رسم خريطة المنطقة العربية، سياسياً وثقافياً، من خلال الاعتماد على إسرائيل ودعم نظام حكم "ورقي" في بغداد، يمثل مثالاً لنمط العلاقات المستقبلية بين الولايات المتحدة والدول العربية، ونموذجاً لإمكانية وشكل التغيير المطلوب أميركياً في المجتمعات العربية الأخرى، وأسلوباً للتلويح بفرضه، إذا استلزم الأمر علاوة عن المكاسب الاستراتيجية والاقتصادية التي أسالت لعاب أميركا وجعلتها تعتقد أنّها قادرة على جني ثمارها من خلال وجود قواتها على الأراضي العراقية، وعبر إعادة تشكيل المنظومة الأمنية في المنطقة وفقا للمصالح الأميركية، والسيطرة على بترول العراق، ثم قيام شركاتها بالدور الرئيسي في عملية إعماره بعد الخراب الذي لحق به.

والسؤال، لماذا لم يكن لجامعة الدول العربية دور فعّال في حماية الأمن القومي العربي؟ ولماذا لم تلجأ إلى تطبيق معاهدة الدفاع العربي المشترك، لمواجهة التهديدات والاعتداءات المتكرّرة على أمن عدة أقطار عربية؟ ثم أين دور حركة عدم الانحياز ومجموعة الدول الأفروآسيوية وتكتلات دول الجنوب إزاء هذه الاعتداءات، وإزاء نظام دولي لا حظ لها فيه؟

مما سبق، يبدو أنّ الدول العربية غير قادرة، بأدواتها الذاتية، على تحقيق الأمن والاستقرار في الأقاليم التي تنتمي إليها، يضاف إلى ذلك أنماط العجز عن تفعيل الغضب العربي السائد على المستويين، الرسمي والشعبي، الأمر الذي يفضي بنا إلى نتائج محبطة في المدى المنظور، إلا أنّنا، وبتفاؤل قليل، لا سيما في ظل إشراقات خلابة للمشهد العربي، تظلّ لدينا نافذة مفتوحة على الأفق، ذلك أنّ العرب ليسوا وحدهم الغاضبين من السلوك الأميركي الاستعلائي حيال قضاياهم. ثمة آخرون يشاركونهم الغضب والامتعاض، بما في ذلك بعض من أقرب حلفاء الولايات المتحدة التقليديين (بعض الأوروبيين مثلا)!

avata
avata
محمد المحسن (تونس)
محمد المحسن (تونس)