الموت يختار فقراء العراق

الموت يختار فقراء العراق

10 فبراير 2017
الفقر أساس لبناء ما يريده الآخرون (حيدر حمداني/فرانس برس)
+ الخط -
مسافة قصيرة قد تفصل بين مدينة يلفّها الحزن وأخرى ينعم أهلها بالراحة. لا مبالغة في القول إن الأولى مفجوعة، فيما يعيش الناس حياتهم في الثانية بشكل طبيعي. يحدث هذا في العراق، وتحديداً في العاصمة بغداد، حيث لا تفصل بين حي وآخر سوى مسافة قد لا تتجاوز الكيلومتر الواحد. حي يعيش نكبات مستمرة، وآخر يراقب مأساة جاره.

في المناطق الفقيرة، يغلب الحزن على الأهالي كلّما خاض الجيش العراقي أو المليشيات معركة ضد تنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش)، أو شن الأخير هجوماً على القوات العراقية أو المليشيات. تكثر مواكب العزاء داخل الأزقة بسبب سقوط قتلى. واقعٌ لا ينسحب على مناطق أخرى يمتاز سكانها بوضع معيشي جيد. السبب في ذلك التناقض هو اختلاف المستوى الاجتماعي. دأب الشباب على ترك دراستهم والتطوع في صفوف القوات الرسمية أو المليشيات التي ظهرت عقب غزو العراق عام 2003 بهدف تأمين قوت أسرهم، فيما يجتهد من هم أفضل حالاً لمتابعة دراستهم ومحاولة الحصول على شهادات أكاديمية عالية، تساعدهم في العثور على وظائف جيّدة.

غالباً ما يكون الفقراء هم الضحية، أكان خلال الحروب أم التفجيرات الإرهابية، بحسب هادي صبيح الذي خسر ابنه في معركة "تحرير الرمادي" (محافظة الأنبار). يقول إن الفاجعة كانت كبيرة عليه وعلى زوجته وأفراد أسرته. لكن ابنه حسن أراد التخلّص من البطالة وتطوّع في الجيش، فقضى في المعركة.

يبدو الفرق واضحاً بين مناطق تطوع معظم أبنائها في الجيش، أو مقاتلين في صفوف المليشيات. هؤلاء تطوعوا لأنهم يبحثون عن مصدر للعيش، ما يفسّر كثرة اللافتات التي تعلن مقتل البعض في معارك ضد "داعش". أما في الأحياء الأخرى، فيموت المواطنون نتيجة حادث مروري أو مرض عضال وغيرها، وغالبيتهم من كبار السن. وفي أحيان أخرى، تعلّق لافتة تعلن مقتل ضابط على أرض المعركة مع "داعش".

إلى ذلك، يقول خلف الساعدي، والد مهدي وعباس، إن شخصاً يدعى فاضل ر. عمد إلى إغراء ابنيه بالانضمام معه لصفوف مليشيات (عصائب أهل الحق) بصفة مقاتلين. يشار إلى أن مليشيا "عصائب أهل الحق"، هي إحدى المليشيات المهمة في العراق، والتي تتمتّع بنفوذ واسع بسبب دعمها من قبل نائب رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء السابق نوري المالكي. وتتضمن الإغراءات حصول كل واحد منهما على راتب جيد وسلاح شخصي (مسدس) ورشاش أيضاً، ومنحهما بطاقات تعريفية خاصة تحميهما من محاسبة أي جهة أمنية لهما، مهما كان مستوى مخالفتهما للقوانين.

كذلك، سيتمكّنان من خلال هذا التطوع من أن يكون لهما شأن كبير في منطقتهما وبين أقرانهما، إذ سيتمتعان بحصانة من نوع خاص، خصوصاً أن من ينتمون للمليشيات يتمتعون بسلطة في الشارع تفوق سلطة القوات الأمنية الرسمية. والأهم من كل ذلك أنهما سيتركان العمل في جمع المعادن من حاويات النفايات. وكان مهدي وعباس يخرجان في صباح كل يوم من البيت، ويقطعان مسافات كبيرة سيراً على الأقدام، ولا يعودان حتى مغيب الشمس، بهدف توفير لقمة العيش بحسب والدهما.



يضيف الساعدي: "فقدتهما إلى الأبد"، موضحاً أنه لم يمض على تطوعهما في صفوف مليشيا "عصائب أهل الحق" أكثر من ثلاثة أعوام حتى قتلا. قتل أحدهما في معركة في محافظة صلاح الدين (شمال البلاد)، والثاني قبله بنحو سبعة أشهر، خلال تفجير عبوة استهدفت رتلاً كان فيه.

من جهته، يقول الباحث في علم الاجتماع عمار الكعبي إن "الأحياء الفقيرة تعدّ الدجاجة التي تبيض ذهباً للمليشيات. لذلك، فإن غالبية المتطوعين في صفوفها هم من هذه المناطق"، موضحاً أن الفقر "يعدّ أساساً متيناً لبناء ما يريده الآخرون، وهو ما دأبت على فعله الكثير من الجهات السياسية، خصوصاً في العراق". ويضيف أن "المليشيات استعانت بهؤلاء الفقراء من خلال اللعب على أوتار العقائد الدينية والمذهبية، وما زال هؤلاء يعملون على غسل أدمغة الفقراء البسطاء".

في هذا الإطار، يتحدث محمود الزهيري عن الفرق بين حيّه في شارع فلسطين، الذي نادراً ما يقتل فيه أحدهم على أرض المعركة، والأحياء القريبة منه في مدينة الصدر، التي لا تبعد سوى مئات الأمتار، ويكثر فيها القتلى نتيجة المعارك. يعزو الأمر إلى اختلاف المستوى الفكري. يقول لـ "العربي الجديد" إن "الأحياء التي يكثر فيها قتلى الحروب كان أهلها قد اضطروا إلى وقف تعليم أبنائهم والبحث عن مصدر رزق، وإن كان على حساب حياة أولادهم، ومنها تشجيعهم للانضمام إلى صفوف المليشيات أو القوات العسكرية". يضيف أن هذه الأسر "لو كانت أكثر إدراكاً، لمكنت أولادها من مواصلة تعليمهم".

يقول: "لدي أصدقاء كثيرون في مدينة الصدر القريبة من حيّنا. هم دائماً قلقون على أبنائهم الذي يشاركون في المعارك أو يتعرضون لاستهداف من قبل الإرهابيين. هذا ليس موجوداً في حيّنا. أكثر ما يقلقني وجيراني هو المشاكل الحياتية العامة التي يعاني منها الجميع، على غرار حصول تفجير في سوق، أو قطع طرقات، أو ازدحام الشوارع وغير ذلك".