المسادا.. مجرد أسطورة

17 مايو 2015
عمليات التنقيب الأثرية لم تستطع إثبات الأسطورة (Getty)
+ الخط -
"طويل، طويل، حائط المسادا
عميقة، عميقة، الحفرة تحت أقدامها،
وإذا كان الصوت الصامت قد خدعني
فمن أعلى الجدار سأرمي نفسي الى الحفرة
فلا أثر يبقى
ولا بقيّة تنجو".

تحدثت، مرة هنا، عن البحر الميت الذي يموت، أساساً، بيد إسرائيل بعد قطعها، منذ أواسط ستينيات القرن الماضي، الشرايين المائية التي تغذيه، وتديم التوازن الذي عرفه طوال وجوده.

على الزاوية الجنوبية، من البحر الميت، تقع هضبة استراتيجية، بالمعنى العسكري، تسمى عندنا "مسعدة" (أو مَصْعَدة، نسبة إلى الصعود) ويسميها العالم الغربي "مسادا" وإسرائيل "متسادا"، وعلى قمة تلك الهضبة أقام هيرودس الكبير معقلاً ضخماً ليكون موقعاً عسكرياً ومقر إقامة شتوياً في آن واحد.

بعد نحو سبعين سنة من موت هيرودس الكبير، الذي لم يعتبره اليهود واحداً منهم لأنه آدومي الأب ونبطي الأم، تتحدث الأدبيات اليهودية، عن ثورة قامت ضد الرومان. هرب الرديكاليون اليهود الذين ثاروا إلى هضبة "مسعدة" واحتموا فيها، غير أن الجيش الإمبراطوري الروماني توجَّه إليهم بعدما فرغ من إخماد ثورة أورشليم (القدس) وحاصر الهضبة بضعة أسابيع، ثم عندما بدا للمحاصرين، بقيادة زعيمهم العازر بن يائيل، أن لا أمل لهم في النجاة قرروا الانتحار الجماعي كي لا يقعوا عبيداً في يد الرومان. فكان على الرجال أن يقتلوا النساء والأطفال ثم يقتلوا بعضهم بعضا حتى آخر واحد في المجموعة التي يقدّر عددها بـ 960 فرداً. هذا ما يقوله السرد الأسطوري للمسادا.

من الضروري، هنا، الإشارة إلى أن هذا السرد الأسطوري المتعلق بـ "واقعة" المسادا لم يتشكل، ويأخذ هيئة الواقعة التاريخية الصلبة إلا مع صعود الحركة الصهيونية في بدايات القرن العشرين. وهذا عمل تعبويٌّ قام به علمانيون يهود لا رجال دين لا تقرُّ شريعتهم الانتحار. كان ينبغي أن توجد سرديات يهودية تؤسس للهجرة التي دعت إليها الحركة الصهيونية إلى فلسطين بالتزامن مع تصاعد مشاعر العداء لليهود في مواطنهم في أوروبا الغربية، وبالأخص في ألمانيا التي بدأت تشهد فصلاً جديداً، ومختلفاً كلياً، في تاريخها السياسي والاجتماعي، مع اشتداد عود الحركة النازية. هذا الأمر الأخير مهمٌ لمن وجدوا أنفسهم بين حركة نازية وفاشية صاعدة ودعوات صهيونية لتأسيس "وطن قومي لليهود" في فلسطين، بحسب تعبير وعد بلفور مطلع القرن. لكن ما هي حقيقة واقعة المسادا، وهل هناك أدلة مادية تدعمها؟

أدلجة التاريخ
يعتمد مؤرخو المسادا الصهاينة على مؤرخ واحد ذكرها هو اليهودي يوسفسس فلافيوس. لا ذكر للمسادا في أي سجل تاريخي آخر. وحتى يوسفسس، الذي أورد تلك الواقعة وقال إن خبرها شاع بعدما نجت امرأتان وثلاثة أطفال من الانتحار الجماعي، يشير إلى الأعمال الإرهابية التي ارتكبها قائد عصابة "حَمَلة الخناجر" إلعازر بن يائيل. فقد دمر يائيل وجماعته بضع قرى في طريقهم إلى قلعة مسعدة ونهبوها، من ضمنها قرية عين جدي القريبة، حيث بلغت حصيلة القتلى، حسب يوسفسس نفسه، نحو 700 امرأة وطفل.

اقرأ أيضا:عيد الربيع المصري.. بين الأسطورة والتاريخ

ولكن هذه المقتلة الضخمة، من أجل المؤن والدعم اللوجستي، تغيب عن سرد المسادا الأسطوري. فهو، أي السرد، يقيم حكاية الانتحار "البطولي" في قلعة مسعدة، على كتابات فلافيوس يوسفسس، ولكنه، يتجاهل، تماماً، أعمال يائيل وجماعته واستباحتهم القرى في طريقهم إلى الاحتماء في قلعة هيرودس التي جاء يوسفسس على ذكرها.

لم يكن كافياً لصناع سرد المسادا الأسطوري أن تنبش "الواقعة" من تدوينات يوسفسس، بل من الضروري دعمها بالأدلة المادية. وهذا ما قام به فريق بقيادة الآثاري، وثاني رئيس لهيئة أركان الجيش الإسرائيلي، يغائيل يادين الذي كان يتميّز حماسة لإيجاد دليل على المسادا.

لم يجد فريق البحث الكبير الذي ترافق عمله، بين عامي ثلاثة وستين وخمسة وستين من القرن الماضي، بحملة تبرعات اسرائيلية وغربية شاركت في قسط وافر منها صحيفة "الأوبزيرفر" البريطانية، سوى حفنة من عظام. تبخَّرت عظام نحو ألف رجل وامرأة وطفل هكذا. وعندما سئل يادين عن قلة العظام البشرية التي وجدت في الموقع قال إن الجنود الرومان قاموا بحرق جثث الموتى ونثر رمادها في الأنحاء. لم يكن يادين، لحسن الحظ، يعمل وحده على قمة هضبة مسعدة بل كان معه باحثون وعلماء آثار أجانب رأوا كيف طوَّع يادين البحث الآثاري للإيديولوجيا والواقع للفكرة المسبقة. من هؤلاء باحث بريطاني هو ديفيد ستيسي الذي صار مرجعاً مقتبساً للتزييف الذي قام به يادين لصالح السرد الأسطوري للمسادا.

تفكيك الأسطورة
لكن أهم ناقدي يادين هو البرفيسور الإسرائيلي نحمان بن يهودا الذي كرَّس وقتا طويلا لتفكيك ادعاءات يادين في كتابين له صارا شهيرين على هذا الصعيد. الأول بعنوان "أسطورة المسادا" وصدر عام 1995، والثاني بعنوان "التضحية بالحقيقة: المسادا وعلم الآثار" الصادر عام 2002.

يتساءل بن يهودا في معرض نقده لانعدام جدارة البقايا البشرية التي وجدت في الموقع: ماذا عن عظام الخنازير التي وجدت هناك؟ ويبدو أن عظام خنازير عثر عليها فريق في موقع التنقيب. ثم يجيب هو بالقول إن ذبح الخنازير كأضحية ودفنها كان عملاً رومانياً، فالمعروف أن اليهود لا يأكلون لحم الخنزير ولا يقدمونه أضحية.

ويقدم بن يهودا أسبابا لصناعة المسادا مماثلة لما جاء في بداية هذا المقال. الحاجة إلى بطولة حتى لو كانت عن طريق الانتحار الجماعي. وهو ما يوازي المثل الشعبي الشامي: "الموت ولا المذلة". فالموت كي لا يذل المرء على يد عدوه عمل بطولي. هكذا يراه المخيال الشعبي.

ولم يكن بعث هذا الموت البطولي لقلة من "المقاتلين" في محيط معاد لهم سوى المعادل الواعي لوجود إسرائيل، الصغيرة، في محيط كبير معاد. بعد نتائج حرب حزيران /يونيو عام 1967 المذلة لنا لم يعد يحتاج الاسرائيليون إلى أمثولة المسادا. لا حاجة للانتحار الجماعي ما دام الجيش الاسرائيلي قادرا على هزيمة ثلاثة جيوش عربية واحتلال فلسطين بالكامل وهضبة الجولان وصحراء سيناء في بضع وعشرين ساعة.

هكذا صارت المسادا قلعة أثرية موجودة على خارطة التراث العالمي لليونسكو، والنقطة السياحية الأكثر جذبا للسياح بين معالم فلسطين المحتلة. أما الأبيات الشعرية التي استهللت بها مقالي هذا فهي من ملحمة شعرية للشاعر اليهودي، الأوكراني الأصل، إسحاق لامدان تحمل عنوان: مسادا، وكانت من أهم أدبيات التعبئة الصهيونية في العقد الثالث من القرن العشرين.

اقرأ أيضا:متحف الأردن يروي قصة تواجد الإنسان منذ القدم
المساهمون