المدينة والسينما

المدينة والسينما

17 مايو 2014

chipstudio

+ الخط -
أتيح لي، في الأسبوع الماضي، أن أشاهد فيلماً مغربياً جديداً، هو الأول لمخرجه الشاب، محمد أمين العمراني، "وداعاً كارمن"، وهو فيلم ناطق بالأمازيغية (الريفية)، تدور أحداثه في قرية صغيرة في منطقة الناضور (شمال المغرب) منتصف السبعينات من القرن الماضي.

يحاول الفيلم، في تناصٍّ بريء مع الفيلم الشهير "سينما براديزيو"، استعادة أجواء القرية التي تحتل فيها قاعة سنيما من المرحلة الاستعمارية الإسبانية مركز الصدارة. وضمن هذه الاستعادة، يتنامى خطّ حكائي، يوظّف فيه المخرج الموهوب عناصر ذات قوة إيحائية مؤكدة، مثل الهجرة وأوهامها، وقسوة المحيط التي تصبح عنفاً في العلاقات الإنسانية، والطفولة المسروقة في مجال بلا أفق، وشغف السينما الذي يتخذ شكل شهرزاد تروّض الوحش.

كارمن التي تدير القاعة، صحبة أخيها، تعيش انغراسها في التربة، وانفصامها القدري عنها، من خلال تحولها التدريجي إلى رمز حيّ لنهاية مرحلة بأكملها، فتعبر الفيلم بغرامياتها المستحيلة، وبأمومتها العابرة التي تمنحها لطفل تائه بين هجرة أمه وقسوة خاله.

ضمن هذه الاستعادة، نعيش، أيضاً، لحظات احتضار فرانكو، متزامنة مع احتضار القاعة، وفي ذلك، يوظف المخرج لقطات تاريخية عن المسيرة الخضراء (إلى الصحراء المغربية) ومفاوضات مدريد، بشكل يفيض عن حاجة الفيلم، لكنه ينجح في الإيهام بالتوثيق و"العلميّة"، بينما يقدم في الواقع مواقف جدّ ساخرة من "وطنية"، لا تتجاوز عتبة السينما.

لكن الذي أثارني أثناء مشاهدة الفيلم في قاعة مكتظة بمدينة الناضور، ليس الفيلم نفسه الذي يظل لطيفا وممتعاً، من دون أن يكون عملاً باهراً، بل تلقّي الناس له، وتفاعلهم معه، واستمتاعهم المعلن بتفاصيله، حتى لتكاد القاعة تكون مسرحاً يضجّ بالتصفيق والهتاف. وقد اعتبرت، في البداية، أن حماس التلقي مرتبط باللغة، ذلك أن الناس كانوا أمام حوار بـ "ريفيّة" الحياة اليومية، وهنا يجدر التنويه بالعمل الجيد الذي قام به المخرج (وهو كاتب السيناريو كذلك) لتقديم الحوار في لغة حقيقية، وليس في أمازيغية مفتعَلة، مشحونة بالتعابير المترجمة، لغة لم تكن في الفيلم مجرّد لباس خارجي، بل عنصراً مندمجاً في الحكي، وفي الكتابة السينمائية، في مواقف العنف كما في مواقف السخرية، عنصراً وفياً للمشاعر التي يحملها، ولوظيفة الإيصال التي تقوم بها لغة مشحونة بتاريخها وبمتخيّلها.

لكنني، في الواقع، ما لبثت أن أدركت أن الأمر أعمق من اللغة، فذلك التفاعل القوي يعود، ربما بالأساس، إلى عثور أبناء الناضور في هذا الفيلم على صورهم، كما هم، هنا والآن، وكما هم في مجالاتهم المندثرة.

سنوات طويلة، ظلت هذه المنطقة حبيسة صور نمطيّة، مستقدمّة من الأحكام المسبقة، ومن الافتراضات التقريبيّة، صور الريف المهمّش، المتمرّد، المغامر، الصعب المراس، القاسي، الحذر، صورة الريف كما رسمها الذين أربكتهم مقاومته الشرسة للاستعمار، وكما استقر فيها الذين اعتبروا الريف دائماً منطقة "غير مرتاحة في جلدها". وقد اشتغل المجتمع السياسي كثيراً بهذا الاستثناء الريفيّ، إلى حدّ جعل المصالحة معه إحدى عجائب الدنيا.

فجأة، يقدم الفيلم صورة ريف كما يحبّه أهله، ريف متحرّر من المسبقات، ريف له تاريخه الكبير، ولكن، له أيضاً تاريخ يومياته الصغيرة، في قرية تحب وتحقد وتحلم وتيأس وتصارع من أجل البقاء.

ربما لا نحتاج في نهاية المطاف سوى إلى صورتنا كما نحن، لنتصالح مع أنفسنا، ومع الآخرين. هذا هو سحر السينما عندما تنسج المتخيّل بخيوط المعيش.
F9F7206E-7CC0-434F-B4BD-52CD7C8DA5F3
محمد الأشعري

كاتب وشاعر وروائي مغربي، وزير سابق للثقافة والإعلام في المغرب، ونائب سابق في البرلمان. مواليد 1951. ترأس اتحاد كتاب المغرب، له عشرة دواوين، وفازت روايته "القوس والفراشة" بجائزة البوكر العربية.