المتنبي لكافور.. ولولا فضول الناس

المتنبي لكافور.. ولولا فضول الناس

14 ابريل 2018
منمنمات أندلسية
+ الخط -

ولولا فضول الناس

أُريكَ الرِضا
لَو أَخفَتِ النَفسُ خافِيا،
وَما أَنا عَن نَفسي،
وَلا عَنكَ راضِيا.

أَمَيناً،
وَإِخلافاً،
وَغَدراً،
وَخِسَّةً،
وَجُبناً..
أَشَخصاً لُحتَ لي، أَم مَخازِيا.

وَلَولا فُضولُ الناسِ
جِئتُكَ مادِحاً
بِما كُنتُ في سِرّي بِهِ
لَكَ هاجِيا.
المتنبي

كان أبو الفتح عثمان، المعروف بابن جني، يقرأ على المتنبي بائيته في مديح كافور حين استوقفه فجأةً بيت أبي الطيب الذي يقول فيه:

وما طربي،
لما رأيتكَ، بدعةً.
لقد كنتُ أرجو
أن أراكَ، فأطرب.

كان ابن جني حينها بصدد دراسة وجمع ديوان المتنبي وشرحه. إنه الأشد افتتاناً وذكراً للمتنبي وشعره، كان يصفه بـ"شاعرنا"، وكان يقول عنه: "حدّثنا، وماعرفته إلا صادقاً". فكان يقرأ على الشاعر قصائده، ويعود إليه مستفسراً حيثما اقتضى الاستفسار.

استوقف ذلك البيتُ ابنَ جني، فالتفت إلى الشاعر متسائلاً: "أجعلتَ الرجلَ أبا زنة؟"، أي قرداً، بحيث كان يطربك. ولم يجد المتنبي ما يردّ به على صديقه العالم الأوثق سوى أن يضحك، ويدير بوجهه عنه.

يفهم العالِمُ الضحكَ على أنه علامة موافقة. يقول ابن جني في (الفسر): "وهذا البيت، وإن كان ظاهره مديحاً، فإنه إلى الهُزء أقرب".

لقد كان ابن جني أوّلَ من جمع ديوانَ المتنبي، وكان أول النقاد والشارحين الذين نبّهوا إلى ما يتضمّنه مديح المتنبي لكافور وآخرين سواه من هجاء مضمر.

كنت غالباً ما أرى أن أبي الفتح، ومن فرط محبته للمتنبي، كان كثيراً ما يبرّر للشاعر ويجوّز له ما يستهجنه الآخرون، في اللغة والتعبير، حسداً وغيلةً، حتى تنبهت مؤخراً إلى بيت شعري للمتنبي نفسه، فقد كان المتنبي بهذا البيت قد (صرّح) بوضوح شعري متحدثا عن هذا الأسلوب الهجائي الباطني الذي يضطر إليه، ويضطر إلى مدح من لا يستحق المديح.

القصيدة الضمنية التي نقدمها هنا هي التعبير المباشر من المتنبي عن الهجاء من خلال الثناء. هذه القصيدة هي أبيات من يائية المتنبي (أريك الرضا).

***

ولعل قصيدة (أريك الرضا) واحدة من أقسى قصائد الهجاء في شعر أبي الطيب المتنبي، وربما في عموم الشعر العربي.

إنها قصيدة من عشرة أبيات تتكرّس كلّها لغرضها في هجاء كافور الإخشيدي؛ تتنوّع موضوعات الأبيات التي يهيمن في جميعها الخطاب باستخدام ضمير المخاطب، وهذا إمعان في الهجاء قائم على المخاطبة المباشرة. ما كان لأبي الطيب أن يحتاج إلى ذكر المهجوّ، لم يرد اسم كافور في القصيدة؛ طبيعة الخطاب تكفي للدلالة على الإخشيدي، ضحية هذه القصيدة.

واقعاً لا (قيمة) لكافور في التاريخ سوى ما خلّفه المتنبي من هجاء له، وباتت مشكلته أشدّ، إذ حتى المدائح التي كان قد قالها الشاعر فيه كانت عرضهً لقراءات ترى في المديح وجهاً آخر مفصحاً عن هجاء باطنٍ. وهذه الأبيات الثلاثة المختارة هنا، كـ(قصيدة ضمنية)، مكتملة المعاني بموضوع واحد، هي تأكيد نصيّ من أبي الطيب على نيّة الهجاء حتى من خلال المديح.

تبدو الأبيات كما لو أنها تريد قول ما معناه أنّ رغبة الشاعر هي استخدام المديح وسيلةً للهجاء، لكن ما يحبط هذه الرغبة، بموجب النص، هو تفادي فضول الناس لفضح الهجاء إذا ما كان باطنا لمديح، وإلا فإن المتنبي يعبر، بهذه القصيدة، عبر هذه الأبيات والأبيات السبعة الأخرى، عن ثقته بعدم قدرة كافور على التمييز ما بين الذمِّ والثناء.

قسوة في الانفعال تجد صداها في التعبير القاسي عنها هي ما تجعل من هذه القصيدة متوحشة في بلوغها مرادها؛ تبشيع، وتسخيف، وتحقير المهجوّ. إنها نتاج لانفعال ساخن، وهذا ما جعل أبا الطيب، بنصّه هذا، متخفِّفاً، بأكثر من موضع، من قيود رصانة التعبير وكوابحه إلى حد الاندفاع نحو كلام مباشر، غاضب ومتهوّر ومهتاج، في بعض أبيات القصيدة، مستسلماً لتلقائية الافصاح عما يعتمل في دواخله من مشاعر الحيف والتعسف وسوء الطالع ومن نكد الدنيا على الحر إذ يرى عدوّاً ليس من صداقته بدّ، وكان هذا تعبيراً من المتنبي نفسه (بشيء من التعديل الذي يقتضيه السياق) وكان ضد المهجوِّ نفسه، إنما بقصيدة أخرى.

***

المتنبي أحد أعظم منتجي المعاني الشعرية، ولعل امتيازه الأهم هو في قدرته على أن يجعل المعنى صورة شعرية. لكن الأبيات الثلاثة التي اخترناها هنا كانت معاني وأفكاراً وانفعالات أكثر من أن تكون صوراً، وهذا جانب حيوي آخر من تجربة المتنبي القادر على أن يجعل الشتيمة شعراً.

الأبيات هي الأول والثاني من قصيدة (أُريك الرضا)، وقد ألحقنا بهما البيت السابع من القصيدة التي تتألف من عشرة أبيات فقط.

البيت السابع وثيق الصلة بمضمون وسياق البيتين الأولين المتبوعين بأبيات أخرى لا تقل قدراً وقسوة عن البيتين ومضمونهما، لكنها كانت أبياتاً ينتقل فيها الشاعر إلى موضوع أو مواضيع

هجائية أخرى تعزز غرض القصيدة ومرادها؛ تبشيع صورة كافور، وإظهار احتقار المتنبي له. الأبيات التالية للبيتين الأولين تفترق عن الطبيعة المتصلة ما بين البيتين من حيث طبيعة الموضوعات الشعرية، فيما يعود الشاعر في البيت السابع الذي ختمنا به هذه القصيدة الضمنية، إلى موضوع البيتين لاتساقه معهما وانسجام موضوعه مع موضوعهما. إنه، بشكل أخص، بيتٌ يظفر لهذه القصيدة الضمنية بخاتمة هي أقرب إلى الخلاصة في معناها الشعري، التي تكتمل بها بنية القصيدة القصيرة الضمنية، وهي أقرب إلى ما نسميه في عصرنا بـ(الضربة الشعرية) التي عادة ما تكون من أساليب الوقوف عند خاتمة مناسبة وحاذقة في شعريتها.

إلى هذا فإن هذا البيت (السابع):
ولولا فُضولُ الناسِ
جئتُكَ مادحاً
بما كنتُ في سرّي به
لكَ هاجِيا.

هو بيت استثنائي، ومهم من حيث دلالته وإفصاحه بشكل صريح عما يؤكده النقاد والشرّاح من طبيعة بعض مديح أبي الطيب الذي يبطّنه بهجاء موارب.

بهذا البيت يعلن الشاعر، بشكل مباشر لا يقبل اللبس، عن قدرته على قول ما يبدو مديحاً وثناءً فيما هو يضمر، ما بين ثناياه، هجاءً قاسياً. وهو بيت يواصل فيه المتنبي شكواه وتذمره الدائمين من (فضول الناس) ومكائد الحُسّاد من نقاد وشعراء. في واحد من قصائد ثنائه على كافور يقول المتنبي، متذمّراً:

أَلا ليتَ شعري
هل أَقولُ قصيدةً
فَلا أَشتكي
فيها وَلا أَتَعَتَّبُ.

إنهما الخشية والتحسّب من كيد أعدائه وحاسدية الذين لولاهم، ولولا تربّصهم به، لواصل المتنبي، بموجب منطق القصيدة التي نحن بصدها هنا، الهجاءَ من خلال قول المديح. في القليل، هذه هي الفحوى المزدوجة والمباشرة لهذا البيت الاستثنائي الأخير في هذه القصيدة الضمنيّة.

***

يضمر البيت الأول في هذه القصيدة ما أراد الإفصاح عنه البيت السابع في (أريك الرضا)، وهو الأخير في هذه (الضمنية).

أُريكَ الرِضا
لَو أَخفَتِ النَفسُ خافِيا
وَما أَنا عَن نَفسي
وَلا عَنكَ راضِيا.

قاموسياً فإن خَفَيْتُ الشيءَ أَخْفِيه: كتَمْتُه. وخَفَيْتُه أَيضاً: أَظْهَرْتُه، وهو من الأَضداد. بينما الخافي هو الظاهر، فيما المستور هو المخفي. لذلك تجد الشروح تتضارب في معنى المراد بقول الشاعر: لو أُخفت النفس خافياً. فقد جاء شرح ابن بسام النحوي: "أتجمل وأريك أنني راضٍ عنك والنفس تبدي خلاف ذلك. وقوله: (ولا أنا عن نفسي ولا عنك راضيا) محمول على المعنى، لان معنى (لو أخفت النفس) ليست النفس مخفية ولا أنا عن نفسي ولا عنك راضيا، ويجوز أن تكون (لا) بمنزلة ليس كما قرئ: (ولات حين مناص)".

بينما يرى ابن الأفليلي في شرحه أن "الخافي من الأشياء: الذي يبدو ويظهر، والخفي: الذي ينطوي ويستتر". لذلك يفهم الأفليلي البيت كالتالي: "أريك من نفسي الرضا بقصدك، والاغتباط بما يكون من فعلك، لو أخفت النفس ما هو ظاهر من تكرهي لك، وطوت قدمي على ما ظننته من الجميل بك، وما أنا مع ما أظهره راضيا عنك، للدناءة التي خبرتها منك، ولا عن نفسي لسوء ما تخيرته فيك". لكن البرقوقي يذهب إلى التالي في شرحه البيت: "الخافي: ضد الظاهر. يقول: لو أخفت النفس ما فيها من كراهتك لأريتك الرضى، أي لو قدرت على إخفاء ما في نفسي من البغض لك والكراهة لقصدك لكنت أريك الرضا، ولكني لست براضٍ عن نفسي في قصدي إليك، ولا عنك أيضاً لتقصيرك في حقّي".

لا يبتعد البيت الثاني عن هذه الإدانة التي أفاد بها البيت الأول والتي تمضي باتجاهين؛ باتجاه المهجوّ، وباتجاه الذات، ذات الشاعر وهي تثني على كافور كراهةً واضطراراً.

البيت الثاني يتكفل بالتفصيل في دواعي الكراهة التي يكنّها الشاعر للإخشيدي؛ تترادف المثالب في هذا البيت، وجميعها بوضع النصب، بتنوين الفتح، إمعاناً صوتيّاً بإظهارها بهذا الترادف والتتالي الصارخ.

يقول البرقوقي، شارحاً: "المين: الكذب. والإخلاف: خلف الوعد، وهذه المصادر كلّها منصوبة بعوامل من لفظها محذوفة وجوباً، أي أتمين ميناً وتخلف إخلافاً وتغدر غدراً، وهلم جرا، والمخازي: جمع مخزية: وهي الفعلة القبيحة يُخزى صاحبها: أي يذلّ، يقال: خزي الرجل يُخزى خزياً: إذا وقع في بلية وشرٍّ وشهرة، فذلّ بذلك وهان، ويقال في الحياء: خزي يخزي خزاية وخزيت فلاناً إذا استحييت منه، ورجل خزيان وامرأة خزيا، وهو الذي عمل قبيحاً فاشتد حياؤه وخزايته"، ليشير بعد ذلك إلى قول تأبط شراً كشاهد:

فخالط سهلَ الأرض
لم يكدح
به كدحةً..
والموتُ خزيانُ، ينظر.

استهلال البيت الأخير بأداة شرط لا ينفي إمكانية اعتماد المتنبي لهذه الآلية في تقنية (المديح الذام)، ظاهر البيت يمكن أن يقرأ على أن المتنبي كان يتمنى الهجاء من خلال المديح، لكن الشعر يقول ما لم تقله اللغة بسياقاتها النثرية المعتادة. والعودة إلى معظم مدائح أبي الطيب المتنبي لكافور تقدّم الكثير من البراهين مصداقاً لما أراده المتنبي وتمناه، وأكّده العالم الكبير أبو الفتح ابن جني.

 

المساهمون