اللبنانية دانييل عربيد سينما الحرب والأسئلة المعلّقة

اللبنانية دانييل عربيد سينما الحرب والأسئلة المعلّقة

19 ابريل 2016
الممثلة منال عيسى في "باريسية"
+ الخط -
لن يكون "باريسية" (2015)، الروائي الطويل الثالث للسينمائية اللبنانية دانييل عربيد، أول عمل لها يتناول ـ وإنْ في مناخه العام ـ فصولاً من الحرب الأهلية اللبنانية (1975 ـ 1990)، أو بعض تداعياتها الممتدة ـ في مرحلة السلم الأهلي الهشّ والمنقوص ـ على السياسيّ والاجتماعيّ والإنسانيّ والحياتيّ، في بلد متصدّع ومنهار كلبنان؛ علماً أن لجديدها هذا عنواناً فرنسياً هو "عدم الخوف من شيء"، يُعتَبر أنسب وأقرب إلى ذات الشخصية النسائية الرئيسة فيه، وإلى المناخ العام للسرد الحكائيّ. يغوص الفيلم هذا، المعروض تجارياً في صالاتٍ فرنسية (بدءاً من 10 فبراير/ شباط 2016)، وبلجيكية (بدءاً من 2 مارس/ آذار 2016)، في مرحلة حسّاسة من البدايات الملتبسة للسلم الأهلي اللبناني المنقوص، من خلال سردٍ بصريّ لحكاية شابّة لبنانية في الـ18 من عمرها، تغادر بلدها في العام 1993 إلى باريس حاملةً في ذاتها وروحها بعضاً من تأثيرات حربٍ تبدو كأنها لم تنته.

أسئلة الحرب ومناخاتها

ذلك أن دانييل عربيد، التي تُغادر هي أيضاً مدينتها بيروت، المولودة فيها قبل 17 عاماً على المغادرة هذه في العام 1987، تجد في تلك الحرب وما بعدها "مادة سينمائية" ثرية بالمعطيات المختلفة، القادرة على تشكيل نواة درامية وإنسانية لبناءٍ سينمائيّ متنوّع، يطرح أسئلة الحياة والموت وما بينهما. فيلمها الروائيّ الطويل الأول "معارك حبّ" (2004)، المُترجَم إلى الفرنسية بـ"في حقول المعارك"، يستعيد منتصف ثمانينيات القرن الـ20 في بيروت الملتهبة بنار حربها ودمارها وموتها وتشرذماتها، عبر قراءة سينمائية هادئة وشفّافة لمسار عائلة "مسيحية مارونية" تعيش تفكّكها القاتل، جرّاء انغماس الأب (عوني قوّاص) في الانهيار العام المنعكس، سلباً، في انهياره الخاصّ. وفيلمها "بيروت بالليل" (2012) ـ الذي يُعتبر بمثابة "فيلم تلفزيوني"، على الرغم من عرضه السينمائي التجاري لاحقاً ـ يتّخذ من مرحلة ما بعد اغتيال الرئيس السابق للحكومة اللبنانية رفيق الحريري في 14 فبراير/ شباط 2005 ـ مساحة زمنية للتوغّل في أحوال بلدٍ ومجتمع لا يعثران على سبلٍ للتحرّر من إثم الحرب وغليانها، ومن تداعيات الموت والخراب، وارتباكات المقيمين فيهما.



لن تحضر الحرب اللبنانية تلك في أفلامها الروائية الطويلة فقط، لأن دانييل عربيد تُتقن كيفية اختراق بعض المخبّأ أو المسكوت عنه أو المغيّب، عبر استخدام أشكال بصرية تتحوّل إلى مرايا تُحصِّن شيئاً من الحكايات الفردية الشفهية من الاندثار. ففي وثائقيّ يحمل عنواناّ مُعبّراً هو "وحيدة مع الحرب" (2000)، تنكشف المخرجة الشابّة أمام الكاميرا الخاصّة بها، في رحلة بحثٍ (سينمائيّ جماليّ إنسانيّ تأمّليّ) عن/ في مفاصل الحرب وآثارها المتبقية، كما عن/ في منعطفاتها التي يُراد لها الاختفاء. تتعقّب السينمائية ما يُمكن وصفه بـ"طيف الحرب، والفراغ الذي تُخلّفه وراءها"، بعد التوقّف الملتبس للحرب نفسها في 13 أكتوبر/ تشرين الأول 1990. تتعقّب المخرجة أيضاً "الحضور الشبحي للحرب في الحياة اليومية للّبنانيين، وفي المدينة أيام السلم". في حين أن "أحاديث صالونية"، المؤلّف من مجموعة "أشرطة منزلية" (إنْ يصحّ التعبير)، تنقل تفاصيل يومية لـ"صبحيات" أهلها وجيرانهم، المليئة بكلامٍ يؤكّد معظَمه أن الحرب مستمرّة، وإنْ بأشكال مختلفة. "أحاديث صالونية" تتكوّن من 6 أجزاء مُصوَّرة بكاميرا فيديو، تُنجَز الـ3 الأولى منها في العام 2004 (29 دقيقة)، والـ3 الثانية في العام 2009 (30 دقيقة).

في "وحيدة مع الحرب"، تُعيد دانييل عربيد رسم ملامح راهنٍ معلِّق بين خيبة "حروب صغيرة" تُحرق البلد وناسه في 15 عاماً، وصدمة النهاية الغامضة، التي "تبرع" في توليد متاهات وارتباكات وقلاقل إضافية، بعد 10 أعوام تقريباً على النهاية تلك. المنحى الوثائقيّ يُعيد بلورة مسارات معقَّدة وقاسية لأناسٍ لا يخرجون (ألِأنهم لا يستطيعون، أم لأنهم لا يريدون؟) من ذاكرةٍ مخضّبة بالدم والدمار والعنف والمنافي، الداخلية والخارجية معاً، أي داخل البلد وخارجه، وداخل المرء وخارجه أيضاً. أما "أحاديث صالونية"، فتلتقط نبض المدينة وفوضاها وانهياراتها وعجز "جراحها" عن الالتئام، من خلال ما يدور من أحاديث بين سيدات يمضين "صبحياتهنّ" في شرب القهوة، وسرد النمائم، وإعادة إنتاج خطاب حربيّ ـ وإنْ بشكل مبطّن، وإنْ بشكل لاواعٍ لديهنّ ـ يتمحور أساساً حول الآخر والعلاقة به، وحول الراهن والتخبّط فيه، وحول الوجود (الفردي والجماعي ـ القبائلي/ الطائفي/ المذهبي) وارتباكات تحصينه أمام الآخر نفسه.


صُوَر فوتوغرافية

هذه نماذج لن تكون سمة وحيدة لنتاج سينمائي تصنعه دانييل عربيد في سيرتها المهنية، التي تبدأ في العام 1997، بإنجازها أول فيلم لها، وهو روائيّ قصير بعنوان "ردم" (17 دقيقة، 1998، تمثيل: هيام عبّاس)، الفائز بجائزتي أفضل فيلم وأفضل إخراج، في الدورة الثانية (2 ـ 9 أكتوبر/ تشرين الأول 1998) لـ"مهرجان بيروت السينمائيّ الدوليّ": عن بيروت، وعن ذاكرة ـ فردية وجماعية ـ ضائعة وسط رماد الماضي واضمحلال كلّ نقاء وصفاء في راهنٍ غير واضح. فالصبيّة المهاجرة تعود إلى مدينتها بحثاً عن مُصوِّر فوتوغرافي "تعتقد" أن لديه صورة لمنزل أهلها الذي لا تعرفه. كأن صورة المنزل التي لا نراها تتماهى مع صورة المدينة الغامضة بالنسبة إلى الصبيّة، وربما بالنسبة إلى المخرجة أيضاً.

العلاقة بالصورة الفوتوغرافية ستجد مكاناً أرحب لها في فيلمها الروائي الثاني "رجل ضائع" (2007). اقتباسٌ حرٌّ لسيرة المُصوِّر الفوتوغرافي الفرنسي أنطوان داغاتا (1961)، يغوص الفيلم في نمطٍ معروفٍ في صناعة السينما، يتمثّل ببناء مسارات متوازية (متصادمة أحياناً) لشخصيات عديدة، تلتقي (المسارات والشخصيات) في لحظات غير متوقّعة درامياً، أحياناً. يتمثّل أيضاً في جعل الرحلة الجغرافية تماهياً بصرياً برحلة روحية ونفسية وتأملية، يحتاجها المرء كنوعٍ من اكتشافٍ وفهم، أو كأداة تطهُّرٍ واغتسال.

الشخصية الرئيسية تُدعى توماس كورِه (ملفيل بوبو). يحمل آلة التصوير الفوتوغرافي وأسئلة مريرة وقاسية عن معنى الألم والمتاهة، وعن الشرق وانكساراته وامتداداته الجغرافية وفضاءاته الروحية. رحلة الجغرافيا (لبنان وسورية والأردن)، لن تكون فعلاً سياحياً، بل اغتسالاً للجسد والروح من تمزّقات وتعقيدات مرتبطة بأحوالهما. أما الصورة الفوتوغرافية، وإنْ تبدو لوهلةٍ سبباً للرحلة الجغرافية تلك، تتحوّل إلى مفتاحٍ لـ"غزوٍ" جسديّ وفكريّ وتأمليّ للاجتماع والعلاقات والتفاصيل اليومية.


الرحلتان الجغرافية والروحية حاضرتان، وثائقياً، في "حدود" (2002). فالبلدان العربية الـ4 المحيطة بفلسطين المحتلّة امتدادٌ جغرافيّ متلائم ورغبة البحث والاكتشاف والتأمّل (هنا أيضاً) في أحوال جماعات وبيئات مقيمة في التهاب الصراعات غير المتناهية. لكن رحلتي "رجل ضائع" تبقيان الأجمل والأعمق اشتغالاً في أسئلة يُمكن اعتبارها "وجودية"، إذْ يعاني توماس كورِه مآزق في النفس والروح، هو الباحث في الشرق عن خلاصٍ، أو ربما عن تنفيسٍ لآلام لا تنتهي. أما رحلتا "حدود"، فتخرجان من التأمّل الروائيّ في السينما، كي ترتبطان أكثر بوقائع العيش الفلسطيني على التخوم القاسية للمنافي والهجرات، وبتفاصيل اليوميّ لأبناء البلدان المجاورة لفلسطين.

الهجرة

بالعودة إلى "باريسية" (في 14 أبريل/ نيسان 2016، تبدأ عروضه التجارية اللبنانية، وبعد ذلك بأسبوعٍ واحدٍ فقط، تنطلق عروضه التجارية في سويسرا)، يُمكن التوقّف عند 3 ملاحظات أساسية يتناولها الفيلم المبني على حكاية لينا (منال عيسى)، ابنة الأعوام الـ18، التي تغادر بيروت في العام 1993 إلى باريس، لمتابعة دراستها الجامعية، فتلتقي لبنانيين وفرنسيين وأجانب، وتبدأ عيشاً يتوزّع على صداقات ومشاعر وخيبات وقسوة ومعرفة وتفتّح، كما على انغماس فرنسيين في ارتباك لحظتهم الآنية مطلع التسعينيات المنصرمة أيضاً، إذ يبدو الجميع منهمكين في مزيدٍ من الأسئلة والنقاش والبحث عن المعاني والتفاصيل:
أولاً: يتحرّر النصّ من كل خطابية مرتبطة بحنينٍ أجوف إلى البلد الأم (الشرق)، أو بانبهار مسطّح بالمدينة الجديدة (الغرب)، لأنه يروي سيرة الاكتشاف والتأمّل: اكتشاف الجديد، بكل ما يحمله الجديد من صدامات وتحدّيات وحالات غير متوقّعة، والتأمّل في أسئلة الحياة والآخر والعلاقات والحبّ والفنّ والانفصال والأهل والانتماء والتمرّد. هذا كلّه مرويٌّ بسلاسة درامية محصّنة بسيناريو متماسك، وأداء متين الصُنعة والإدارة، وتوليف (ماتيلد مويار) يبلور المسار المتنوّع للحكايات في اتّجاهات متوازية أو متصادمة أو متكاملة.



ثانياً: أداء منال عيسى (23 عاماً)، في دورٍ أول لها، يضع الشابّة أمام تحدّ مستقبليّ، مرتبط بمدى رغبتها في استكمال مسارها التمثيلي. ذلك أنها تُتقن الانغماس في مصائب لينا، وفي رغباتها المقموعة أو المتفلّتة، وفي صداماتها الأولى (وبعضها قاسٍ ومخيف)، وفي أحلامٍ يتحوّل بعضها إلى أوهام أو كوابيس. تُتقن الارتباك والفرح، وتجعل شخصيتها السينمائية مرادفاً لمعنى الخروج من ورطة العائلة إلى ما هو أوسع وأعنف وأخطر، وأجمل أيضاً.
ثالثاً: تقدّم ملموس، بصرياً، في مسارات فنية ودرامية وجمالية مختلفة، للمخرجة الشابّة، التي تُبرهن، مجدّداً، قدراتها التخييلية على تحويل وقائع وسرديات إلى عالمٍ سينمائيّ شفّاف ومتماسك في بنيته الداخلية، وفي عمارته البصرية، وفي تمدّده نحو الأسئلة المختلفة. ذلك أن دانييل عربيد ـ التي يعتبرها البعض "أول" سينمائية لبنانية تخترق الممنوع، بإشاراتها الواضحة إلى الهويات الخاصّة بشخصيات أفلامها، وبتقديم الجسد بما هو عليه من ألم وانفعال وروح وبوح ورغبات ـ مستمرّة في تفكيك كلّ العوالم المنغلقة والمفتوحة، بحثاً عن/ في جماليات الصورة السينمائية.

(كاتب لبناني)

المساهمون