اللاجئ الفلسطيني مستبعد عمداً من الحماية القانونية (2-2)

اللاجئ الفلسطيني مستبعد عمداً من الحماية القانونية (2-2)

15 مايو 2014

فلسطينيون في مخيم اليرموك المدمر بدمشق (يناير 2014 Getty)

+ الخط -
لا يمكن فهم ظاهرة الهجرة القسرية وانعدام الجنسية وفقدان المواطنة من منظار الحقوق الإنسانية فقط، فالأخيرة بالتأكيد معيار أساسي من معايير أنسنة الاجتماع البشري، غير أنها ليست بالضرورة البعد الوحيد في هذه الحقوق. ولا يمكن، بالتالي، مقاربتها من خلال هذا البعد فقط. إذ، حالما نخطو الخطوة الأولى في عملية سَبرها، حتى تتكشف عن أنها كذلك ضرورة وظيفية، من ضرورات النظام الدولي نفسه، قبل أن تكون معياراً لأنسنته ولترويض الوحش الضاري فيه. ذلك أن المعنى الوظيفي للعهود الدولية الإنسانية (العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، اتفاقيات جنيف الأربع، المتعلقة بمعاملة المدنيين في وقت الحرب، معاهدة اللاجئين إلخ) لا ينبع من بعدها الإجرائي، بل من أنها، كما بينت حنة آريندت، اتفاقيات دولية ضمانتها مستمدة من منظمة دولية، هي هيئة الأمم المتحدة. وفيما يخصنا هنا، وهي قضية اللاجئين، حددت معاهدة اللاجئين، وقنّنت، جملة من الالتزامات، ولنقل أسست لآلية حمائية، أُوكلت بها منظمة دولية خاصة (مفوضية اللاجئين)، وأن هذه المنظمة تتسم بكونها خارجية عن الدول/الأمم التي شكلتها، من جهة، وتمثِّل حيزاً لا يتقاطع، كما سنرى، مع سيادة الدولة/الأمة، إن لم نقل يعززها، من جهة أخرى.

والواقع أنه، في ظاهرة اللاجئين وعديمي الجنسية، كما في غيرها من الظاهرات التي تنتجها الدولة الحديثة، لا يرتبط ما يتوجب مساءلته بنوايا الحقوقيين والدبلوماسيين الذين فاوضوا، وعملوا على صياغة قانون اللاجئين، من حيث هو كذلك؛ وهو لا يتعلق بالإرادة السياسية لممثلي تلك الدول، بخصوص إقامة نظامٍ، يُفترضُ فيه أن يُوفِّر أقصى حماية ممكنة لمن حرموا من الحماية من بني البشر. فما ينبغي سَبره هي المنظومة التي نشأت في داخلها ظاهرة انعدام الجنسية، ووفرت كل الشروط الضرورية لإنتاجها؛ وأقصد بذلك بنية النظام التي تجعل من اللاجئ وعديم الجنسية (أو البدون لدى العرب) ظاهرةً ممكنةً في التاريخ، وتتماشى مع "طبائع" الأشياء. إذ كيف أنتجت البشرية هذه الظاهرة التي لم تعرفها طوال تاريخها كله؟
إنه سؤال يمس الحداثة السياسية كلها. 
يتعذر تحليل النظام الدولي، وسَبر مفارقاته وتناقضاته البنيوية، إن لم نضع منطقته الرخوة تحت دائرة الضوء. ويشكل اللاجئون وعديمو الجنسية من غير لَبْس هذا البطن الرخو باعتبار أمرين: أولهما أن حالتهم المفارقة تكشف أُسّ النظام الدولي، بما هو ناتج موازين القوى الفعلية القائمة على الأرض؛ والثاني أن بنية القانون الدولي الإنساني، ومبادئه التي تتصل به، هي ترجمة أمينة لهذا النظام الدولي نفسه، ولموازين القوى فيه. والحقيقة إن بنية الاستبعاد لا تتكشف على سعتها، عبر مفهوم اللاجئ، أو في داخل تعريفه، من حيث هو كذلك، فحسب، بل في كون هذا المفهوم الحقوقي/ الإجرائي متعذراً من خارج إطار تكوّن الدولة/ الأمة، وبعيداً عن بنيتها الحقوقية، وعن مفهوم المواطنة والبعد الحصري، أي الاستبعادي الذي ينطوي عليه. ذلك يعني أن قضية اللاجئين، وعديمي الجنسية، يجب أن يُنظر إليها على أنها كشّافة لآليات النظام الدولي الذي يتيح إنتاجها، وأن جذورها تعود إليه نفسه كنظام، وأنها ليست حالة طارئة، أو هامشية فيه.
باختصار، يجب ألا تتم مقاربة قضية اللجوء من منظارٍ يرى في (معاهدة اللاجئين)  و(المفوضية السامية للاجئين) أنهما إثبات على رغبة النظام الدولي، الذي تأسس بعد الحرب الثانية، في تسوية الأوضاع الشاذة التي أعقبت الحرب العالمية الثانية، وإلى إرادته القوية في تجاوز فظاعاتها، وما خلفته من نتائج كارثية على البشرية بشكل عام، وعلى ملايين البشر ممن تحولوا إلى لاجئين و/ أو إلى أبناء أقليات عرقية أو إثنية، وإذن سياسية بالضرورة، في دول قومية جديدة، صارت لهم بشكل خاص.

وأرجح، من جهتي، أن ظاهرة عديمي الجنسية مرتبطة بالحداثة السياسية، وأنها من النتائج المباشرة لتسيّد الدولة الحديثة وتعمّمها، في كل بقاع المعمورة. وسأكتفي، هنا، بهذا القدر لضيق المجال. 
في هذا الخصوص، تبيِّن دراسة أعدها الحقوقي، أنطونيو فورتن، بوضوحٍ كثيف، كيف أن كلاً من فئتي (اللاجئين) و(عديمي الجنسية) من غير حماية فعلية داخل النظام الدولي القائم، اليوم. وهذا على الرغم من حقيقة أن دواعي حمايتهم هي التي تعطي الشرعية لكل القانون الدولي الإنساني، ومؤسساته المختلفة (المفوضية السامية للاجئين وغيرها). بل إن فورتن يذهب إلى أبعد من ذلك، حين يؤكد، في دراسته، على أن عديم الجنسية حين يتعرض لأذى، تسببه دولة ما، فإن هذه الأخيرة "ليست مسؤولة إزاءه على الإطلاق". إنه محروم، بالتعريف الضروري كذلك، مما يسمى بلغة القانون الدولي العام بـ(الحماية الدبلوماسية) التي تعطي الدولة الحق في حماية مواطنيها، حين يتعرضون "لأعمال تتنافى وأحكام القانون الدولي ارتكبتها دولة أجنبية، ولم يتمكنوا من تأمين حقوقهم، عبر قضاء تلك الدولة".

إن عديم الجنسية عديم الحماية، لأنه محروم من حماية أية دولة على الإطلاق: إنه عديم الحماية، لأنه من غير دولة هي، بالتعريف الضروري للدولة/الأمة، الإطار القانوني الوحيد الذي "يرتفع" بالكائن البشري إلى "مقام الإنسانية"، وكل الحقوق التي يوفرها هذا "الارتفاع". هكذا، تتحول الحقوق، بضربةٍ واحدةٍ، إلى سلاٍح استبعادي، مسلط على الناس في عالم الدولة/الأمة. يكفي أن نرقب حال المشردين السياسيين واللاجئين الفلسطينيين من حملة الوثائق لإدراك ما نقول.
هكذا يتضح أمران، أُدوِّنُهما من قبيل الذكر فقط، لأن المجال لا يتسع للتعمق فيهما هنا. أولهما أن فكرة الحقوق اختُزلت في الدولة/الأمة الحالية (أي دولة الحداثة) اختزالاً مريعاً يستحق بحد ذاته التحليل: من حقوق الناس (أي كل الناس) إلى حقوق المواطنين (أي بعض الناس). والثاني (يتصل بالأول اتصال ترابط وتراكب)، وبيانه أن تحويل الإنسان (اختزال؟) إلى مُواطنِ في الدولةِ/الأمةِ هيأ القاعدة الضرورية لنشوء أشكال حديثة من العنصريات، ما كانت ممكنة الوجود في العصور السابقة على الحداثة: وفَّر للعرقية والشوفينية قاعدةً، تبدو كما لو كانت حقوقية، وتتماشى مع طبائع الأشياء. والتعاسة، كل التعاسة، لكل الذين دُفعوا إلى هوامش النظام الدولي، المتكون من دولٍ ذات سيادة نظرية على الأقل، أي دول تمارس في التاريخ سلطةً مطلقةً على الناس المتحدرين و/أو المتواجدين على أرض الإقليم الذي تسيطر عليه. ألا تقوم كل العنصرية الإسرائيلية بحق الفلسطينيين على فكرة أن إسرائيل، التي تعرِّف نفسها على أنها الدولة القومية للأمة اليهودية، مضطرة، بحسب تعريفها نفسها، إلى أن تستبعد الفلسطينيين، وأن هذا الاستبعاد ينسجم مع المبدأ الأول للدولة/الأمة؟

****
وضعت مأساة نازحي سورية من الفلسطينيين الذين اضطروا إلى الفرار إلى دول الجوار نفاق النظام الدولي في دائرة الضوء. فهؤلاء لم يجدوا لهم طريقاً إلى سجلات المفوضية السامية للاجئين، لأن ولاية هذه الأخيرة لا تشملهم، كما بينّا. وانعكس ذلك على التعامل معهم. ثمة فظاظة غير مفهومة، وعدائية غير مبررة. وأُرغم كثير منهم على العودة، ومنعوا من الدخول.
ونعرف أن المفوضية العليا للاجئين أُعطيت مهمة التوصل إلى إيجاد حل دائم لمشكلة اللاجئين، وتقديم الحماية للاجئين المشمولين بانتدابها، والتنسيق بين نشاطات الهيئات التطوعية المهتمة بشؤون اللاجئين، وتسهيل عودة من يرغب إلى مواطنهم. كانت الفكرة السائدة أنه من غير المقبول أن يبقى وضع اللاجئ من دون حل لأمد غير محدد، غير أن استبعاد المهجرين الفلسطينيين من نظام الحماية الدولية هو، في الحقيقة، شامل لكل الفلسطينيين، حتى الذين لا يتلقون مساعدة "أونروا"، أو يقيمون خارج المناطق التي تمارس فيها "أونروا" ولايتها، كما في دول الخليج والعراق وليبيا على سبيل المثال. ينجم عن ذلك أن مجتمع اللاجئين الفلسطينيين كله (حوالى ستة ملايين، ويعادل حوالى ثلث تعداد اللاجئين في العالم) تعوزه الحماية الدولية المستحقة، خصوصاً وأن فجوات الحماية تتضح في كل مناطق الشتات، كما الحال في العراق ولبنان والأراضي الفلسطينية المحتلة في 1967 (بما فيها القدس). وتتعلق فجوات الحماية للاجئين الفلسطينيين بتفاوت القيود التعسفية المفروضة على حقوقهم الأساسية، بما، في ذلك، مثلاً حق التنقل والحركة، وحقوق تلقى خدمات الصحة الجسدية والعقلية والنفسية، والتعلم، والحياة الكريمة، وحقوق العمل، إضافة إلى حقهم الأساس في التوصل إلى حل دائم وشامل لقضيتهم، وإلى دولةٍ، تخرجهم من حالة العراء الحقوقي الذين هم فيه اليوم.  

***
إجابةً على سؤال: لماذا يشكل اللاجئون الفلسطينيون صنفاً خاصاً من اللاجئين في العالم؟ يعزو بعضهم السبب إلى افتراض أن الميثاق الدولي الخاص باللاجئين صُمّم كي يتعامل مع حالات فردية، وليس مع حالات تطهيرٍ عرقيٍّ وطرد جماعي، كتلك التي حدثت للفلسطينيين، غير أن الاعتبارات التي أدّت إلى إبعاد الفلسطينيين عن التمتع بحماية المفوضية العليا لشؤون اللاجئين، واستثنائهم من دون غيرهم من المهجرين والمبعدين قسرياً عن مواطنهم، هي اعتبارات سياسية، وليست حقوقية. وتتجلى صعوبة تعيين الوضع القانوني للاجئين الفلسطينيين في أنهم، كجماعة، يتحَدُّون التعريف السهل. فاللاجئون الفلسطينيون ليسوا لاجئين فقط. إنهم جزء من شعبٍ تحوَّل جلّه إلى لاجئ. ومنذ البدايات، بدأ الغربيون ينعتون الفلسطينيين بـ"لاجئين" فقط، وترسخ، جرّاء ذلك، سوء فهم مازال قائماً حتى اليوم. وبهذه المناسبة، ربما كان مفيداً إجراء دراسةٍ لغويةٍ للنقاشات التي جرت، وتجري، في الأمم المتحدة بخصوص اللاجئين الفلسطينيين. فهذه تتحاشى، غالباً، التأكيد على أنهم يشكلون شعباً. ولا تخفى الدلالات السياسية والنتائج العملية لهكذا اختزال.


 

A15E2479-A86E-4FA5-9A8C-7C4CA1FB6626
محمد حافظ يعقوب

باحث وكاتب فلسطيني مقيم في باريس. من مؤسسي الحركة العربية لحقوق الإنسان. يحمل دكتوراه الدولة في علم الاجتماع من جامعة باريس. نشر مقالات ودراسات بالعربية والفرنسية. من مؤلفاته بالعربية: العطب والدلالة. في الثقافة والانسداد الديمقراطي. بيان ضد الأبارتايد.