الكاتبُ عاملاً وأجيراً

27 أكتوبر 2015
+ الخط -

قرأتُ، أخيراً، خبراً استوقفني وأضحكني، قبل أن يبكيني، جاء فيه: "من الآن فصاعداً، ومن أجل مكافأة عمل الكتّاب، سيكون لزاماً على منظّمي التظاهرات الثقافية التي يدعمها المركز الوطني للكِتاب أن يقوموا بمكافأة المؤلّفين الذين يُدعون للمشاركة".

صدر القرار هذا في فرنسا، عن مجلس إدارة المركز الذي يدعم أكثر من 95 تظاهرة ثقافية وأدبية تقام في مختلف مناطق البلاد، ويوفر 78 منها مكافآت للكتّاب لقاء مساهماتهم، ما يعني أن القرار إنما جاء تثبيتاً لهذه الممارسة وشرعنة لها، كما لإجبار من يتهرّب منها على اعتمادها، مع إمكانية خسارة دعم المركز، إن لم يفعل.

ولا يقف الأمر عند هذا الحد، إذ يشترط القرار أن تطبَّق بنوده على الكتّاب الفرنسيين والأجانب على السواء، ودونما أي تمييز، وأن يشمل المشاركين في لقاءات وقراءات، مع استثناء حفلات التوقيع، إلى جانب تحديده الحدّ الأدنى لقيمة المكافأة الذي يبلغ 150 يورو للقاءات التي يجري تنظيمها حول آخر إصدار للكاتب، و226 يورو للقاءات التي تستوجب تحضيراً مسبقاً، و400 يورو للقراءات/العروض، سواء تمّت تلاوتها من الكاتب نفسه، أو من شخص آخر.

نحن، الكتّاب العرب، الكتّاب البؤساء، يمنّنوننا حين يدعوننا إلى المشاركة في مؤتمراتهم ومعارضهم. وإن تجرّأنا وسألنا إن كانت هناك مكافأة ما لقاء الورقة التي سنلقيها، وقد تطلّبت وقتاً وجهداً وتفكيراً لإعدادها، أو لقاء مشاركتنا في طاولة حوار، أجابونا أنهم سيتكلّفون بطاقات السفر والإقامة في فندق وتقديم وجبات، غامزين بذلك ضمناً، أو حتى مباشرة، إلى وجوب تشكّر ربنا على النعمة التي تسقط من "سمائهم" علينا، فهم قد افتكرونا من دون سوانا، وهم، بدعوتهم إيانا، إنما يساهمون في ترويجنا وتعريف الجمهور بنا. وقد يغيّر المتصّل الداعي نبرته، فيُظهر خيبة وانقباضا لاكتشافه وقاحتك وماديّتك وتعلّقك بصغائر الأمور، في حين أنه كان يظنّك أديباً مترفعاً، روحانياً، لا يحيا إلا في عوالم الأفكار والمثاليات. فإن كنت أديباً حقاً، وجب ألا تعني لك المادة شيئاً، وإن عنت، فمعناه أنك "مزغول"، ولستَ بالنقاء الذي تدّعيه، وقد ثبت الآن بالبرهان أنك، في العمق، محبّ للثراء الماديّ، لا للثراء الفكري.

والحال أنه لئن وجد لذلك شواذ يتمثل بـ"النجوم" من الكتّاب المكرّسين الذين يكافئهم حضورُهم الدائم في المؤتمرات الأدبية ومعارض الكتاب ووسائل الإعلام، بجوائز قد تبلغ، مراتٍ، مئات الألوف من الدولارات، فإن لدى منظمي المؤتمرات الأدبية في العالم العربي إجمالا، عقلية "البلاط" نفسها التي كانت، وما زالت، تسيطر على ثقافتنا. فإما أنت "شاعر" البلاط كما سبق، ولقاء هذا أنت هو الأحق بالنعم التي يغدقها عليك البلاط، أو أنت شاعر فحسب، أو شبه شاعر، وحينها يصبح الأمر منوطاً بمزاج صاحب الدعوة، وما يطيب له أن يغدقه عليك. ففي نظره، أنت لستَ تقدّم عملاً يستوجب مكافأته، بل أنت هنا للسلوى في الاتجاهين: ترويحاً عنه وعن رعاياه، وترويحاً عن ذاتك.

أسرّ لي صديق كاتب بأنه لم يشعر بقيمته الحقيقية إلا في الغرب، بعد ترجمة أعماله إلى لغات أجنبية، وأنه كان لا يصدّق أن الجمهور، في بعض التظاهرات والمهرجانات الأدبية الرفيعة، كان يدفع لدخول القاعة والاستماع إليه، هو الكاتب العربيّ "المجهول"، القادم من قارة أخرى، ولغة أخرى وثقافة أخرى. قال إنه كلما تكلّم أو قرأ أو شارك في ندوة أو لقاء، شعر أخيراً بأنه كاتب بالمعنى الذي يفهمه وينحاز إليه، أي أنه عامِلٌ أو أجيرٌ "أدبـيّ"، إذا جاز التعبير، كأي صاحب مهنة أخرى، يعتاش من تعب يديه، ويُحترم لعمله المتقن، لا لأي اعتبار آخر، كائناً ما كان. 

نجوى بركات
نجوى بركات
كاتبة وروائية لبنانية ومؤسسة محترف "كيف تكتب رواية"