القمع البوليسي في موريتانيا: إرث وطني

القمع البوليسي في موريتانيا: إرث وطني

07 نوفمبر 2016
+ الخط -
مسألة أنَّ العنف البوليسيّ يحصّن السلطة ويحفظها من الزوال، ليست وهمًا أبداً؛ فما من سلطةٍ بلغ فسادها واستبدادها أقصاه إلّا استعانت بالقمع لردع المحتجين ضدّها، وإفشال جهودهم المناهضة لها، فالقمع في هذه الحالة هو السبيل الأوّل الذي تنتهجه السلطة حين تبدأ في فقدان شرعيّتها، أمّا في حالِ كانت السلطة فاقدةً للشرعيّة منذ البداية، فإنّ القمع يبقى هو الوسيلة الوحيدة للاستمرار في البقاء بالنسبة لها. هذا تمامًا ما ينطبق على موريتانيا التي يحكمها نظامٌ عسكريّ متعدّد الوجوه منذ أولّ انقلابٍ في العام 1978 على الحكم المدني آنذاك.

يأخذ العنف البوليسيّ في موريتانيا سيرورة متدرجة في تأكيد نفسه على أرض الواقع، ذلك أنه طالما جاء دائمًا متلازمًا مع قضية غياب الشرعيّة الديمقراطية عن السلطة الحاكمة، فهو نتاجٌ مباشر لغياب الشرعيّة القانونية والمدنية عن السلطة العسكرية المُحتكرة للحكم منذ عقود عدة. فمنذ الأنظمة العسكريّة الأولى جاء ذلك العنف في صيغٍ مختلفة تهدفُ لغرضٍ واحدٍ وهو الحفاظ على السلطة، وقد بلغ العنف ذاك مداه حاضرًا، في ظلّ نظام الجنرال محمد ولد عبد العزيز الذي جاء إلى مقعد الحكم عبر انقلابٍ عسكريّ عام 2008، بعد حكمٍ مدني قصير الأجل.


تاريخ القمع
قبل مجيء النظام الحاليّ الحاكم في موريتانيا، مارست جميع الأنظمة التي أحكمت قبضتها على الحياة العامة في البلاد العنف ضدّ مواطنيها، ومع أنّ الحكم السياسي المدني الأوّل لموريتانيا، بأحاديّته الحزبيّة، قد مارس العنف البوليسيّ على المُعارضين له، إلّا أنّ اندراج العنف في الممارسة الرسميّة قد جاء لاحقًا في الحقبة العسكريّة، ففي هذه الحقبة مارس النظام العسكريّ العنفَ تحتَ يافطاتٍ إيديولوجيّة عدة.

وقد ترسّخت تلك الممارسة كتقليدٍ في عهد العقيديْن محمد خونة ولد هيدالة (حكم من 1980 - إلى 1984) وتميّزت فترته القاسية بممارسات الإعدام وتطبيق الحدود الدينية أساسًا، إلى جانب معاوية ولد سيدي أحمد الطايع (حكم من 1984 - 2004)، وفي عهد هذا الأخير كان العنف البوليسيّ علنيًا، لأنه جاء متزامناً مع مواجهةٍ مضادة لتحدياتٍ داخليّة وخارجيّة كانت تموج حينذاك تأثيراتها على السّاحة.

خلال فترة حكمه الطويلة، كان نظام ولد الطايع نظامًا سلطويًا حقيقيًا يُمارس العنف تحتَ مسميّاتٍ عديدة، مرةً للحفاظ على أمن البلد، ومرة للحفاظ على الوحدة الترابيّة. وقد بدأَ مُشكل العنف البوليسيّ جليًّا حينذاك عندما قام نظام ولد الطايع (العسكري البعثي)، بممارسة التصفية العرقيّة ضدَّ فئة الزنوج الهالبولار، إحدى المكوّنات الأساسية للشعب الموريتانيّ، والذي يعرف بتنوّع أعراقه وإثنياته.

بدأت حكاية ممارسات التصفية العرقيّة، عندما انتهزت المؤسسة العسكريّة لنظام ولد الطايع فرصة فشل انقلابٍ عسكريّ قام به بعض الضباط الزنوج. فشل ذلك الانقلاب الذي نفّذوه في مناخٍ مشحونٍ بالصراع الحادّ مع دولة السينيغال، كانَ فرصةً للنظام الموريتانيّ العسكريّ حينئذٍ لكي يُمارس قمعه بأريحيّةٍ ساديّة، وخاصّة أنّ أجهزته الرسميّة كانت قد روّجتْ خطابًا حذّرت فيه الموريتانيين من الزنوج الذين يهدّدون وجود المكون العربيّ ومجاله الجغرافي.

في ذلك الظرف (نهاية الثمانينيات وبداية التسعينيات تحديدًا)، والذي كانت فيه الأجواء مشحونة بالشوفينيّة، مارس نظام ولد الطايع العنف على جزءٍ واسعٍ من الزنوج الموريتانييّن.

فكانت هنالكَ محاكماتٍ صوريّة، تلتها عمليّات إعدامٍ وتعذيبٍ وسجن وتهجير، أفرزت في ما بعد، قضايا حقوقية كبيرة في تاريخ موريتانيا المعاصرة، منها قضيّة الإرث الإنسانيّ.

وقد برز ملف هذه القضية، مُباشرةً بعد النداء الملحّ لأهالي الضحايا الذين يُطالبون باسترجاع حقوقهم وحقوق ذويهم المعنويّة والماديّة في إطار موريتانيا جديدة مُتصالحة مع ذاتها.

عنف مشروع
ممارسات العنف البوليسيّ في موريتانيا هي مُمارساتٌ تأتي في الغالب، ردًا على حالات الاحتجاج المدنيّ التي بدأتْ تظهرُ بقوّةٍ أخيرًا على الساحة الميدانية من أجل مطالبٍ اجتماعية وحقوقيّة وسياسيّة جديدة، فمناخ الاحتجاجات المدنية تمّت مواجهته بقمعٍ شديد، نظرًا للطموحات الحقوقية والاجتماعيّة، التي أخرجت النّاس إلى الميدان. وهذا ما جعل السلطة تفعّل آليّات قمعها البوليسيّ كمواجهةٍ ردعيّةٍ لهذه الطموحات الاحتجاجيّة الواعية الجديدة على السّاحة.

يمارس العنف البوليسيّ على نطاقٍ واسع في موريتانيا الحاليّة، دون أيَّ محاسبةٍ قانونيّة وأخلاقيّة ضدّه، فالحصانة القانونية التي يتمتع بها جهاز الأمن جعلته يُمارس قمعه دون الخضوع لأيِّ مساءلةٍ أو تحقيقٍ أو محاسبة؛ الأمرَ الذي جعل من ممارسات القمع الوحشيّة تتزايدُ باستمرارٍ، وهذا ما يشير إليه عبد اللّه بيّان، رئيس المرصد الموريتاني لحقوق الإنسان، في قوله: "إنّ العنف البوليسي في موريتانيا حقيقة يومية للأسف، يعايشها المواطن في معتقلات الشرطة، وفي ساحات التظاهر، وحتى في الأسواق".

أصبح المواطن البسيط مُعرّضًا للعنف البوليسي مرتيْن، حين ينزل للميدان مُتظاهراً من أجل حقٍ من حقوقه الكثيرة المهدورة، وكذلك عندما يجد نفسه محبوساً في زنزانةِ اعتقالٍ داخل مفوضيةٍ من المفوضيّات أو سجون تشهد حالات كارثية على عدة مستويات.

ظاهرة العنف البوليسيّ التي تسيطر على المشهد الموريتانيّ هي ظاهرةٌ تتفاقم بازديادٍ شديد، خاصّة مع انعدام مُساءلةٍ قانونيّة تعتمدُ آليات الأرشفة والتحقيق، ويبدو خطر هذه الظاهرة واضحًا عند النّظر للكيفيّة التي يقتلُ بها المجال العام الحقوقيّ والاحتجاجيّ؛ إذْ إنّ العنف البوليسي في هذه الحالة يبدو مُكلّفًا فقط بتحصين الاحتكار السلطويّ للمجال العام.

فعلى الرّغم من صدور قانون مناهض للتعذيب منذ أكثر من سنة، إلا أن حالات العنف البوليسي وممارسة التعذيب لم تشهد أي تراجع هذا العام، حسب ما سجل المرصد الموريتاني لحقوق الإنسان، مع العلم أنَّ موريتانيا سبقَ وصادقت في العام 2004 على "اتفاقية مناهضة التعذيب وغيره من ضروب المعاملة أو العقوبة القاسية أو اللّاإنسانية أو المهينة" ضمن اتفاقية ميثاق حقوق الإنسان العالميّة.

تبدو ممارسة العنف البوليسيّ في موريتانيا مُمنهجةً، خاصّة في ظلّ غيابٍ وعيّ حقوقيّ مُضاد يقف في وجهها، وهذا ما يراه رئيس المرصد الموريتاني لحقوق الإنسان، إذ يقول: "لم تتجذر ظاهرة العنف البوليسي في موريتانيا بفعل التراكم الزمني لهذه الممارسة، داخل المؤسسة الأمنية خلال العقود الماضية فحسب، وإنما أيضا بسبب ضعف الثقافة المدنية والحقوقية للمجتمع، وتقبُّله، لارتباطها بفرض الأمن".

وقد تعمّقتْ المشكلة بفعل عدم التغطيّة الإعلامية لتلك الانتهاكات البوليسيّة بشكلٍ مواكبٍ وحيّ، إضافةً إلى ذلك ترويج جهاتٍ محسوبة على السلطة ردودًا رسميّة تسعى لتبرير ذلك العنف باعتباره "تصرفًا شرعيًا"، يسعى للمحافظة على أمن الوطن في ظرفٍ إقليميّ يشهدُ تقلباتٍ أمنيّة كبيرة.


ضحايا منسيون
ضحايا العنف البوليسيّ في موريتانيا كثيرون جداً، إذ لا يتوقف الأمرُ على النشطاء والفاعلين الحقوقييّن فقط، ولكنه أيضاً يشملُ قاعدةً عريضة من الشّعب الذي يُمارس عليه جهاز الأمن دائماً سلطويّته العنيفة، فالعنف البوليسي أصبح يشكلُ مكونًا تاريخيًا في ذاكرة البلاد، ومُساهمًا في تشكيل واقعها اليوميّ القائم.

ففي السنوات الأخيرة، وفي عهد نظام الجنرال عزيز، وصل عدد ضحايا عمليات القتل المكشوفة إعلاميًا فقط نتيجة العنف البوليسي إلى 12 ضحيّةٍ، في ساحات الاحتجاج وأماكن الاعتقال، فضلًا عن ضحايا العنف الذي تسبب لهم في عاهاتٍ جسديّة.

يحدّثنا النّاشط وعضو حركة 25 فبراير الاحتجاجيّة محمد عبدو، عن تلازم سيرة الاحتجاج والعنف البوليسي على ضوء تجربته، فيقول: "القمع البوليسي بدأ منذ النزول للشارع بشكلٍ صريح، وهو ينتهج أنوعًا كثيرة العنف الجسدي، منها الضرب والسحل ومختلف أنواع التعنيف الجسدي واللفظي، ومن الجانب القانوني كانت هناك محاولاتٌ مُنيت بفشلٍ متوقع جدا؛ ففي عدة حوادث من حوادث التعذيب حاولتُ رفع قضايا، كلها تقريبًا قوبلت بالتجاهل"، في إشارةٍ منه إلى تعذر المتابعة القانونية لمُمارسي ذلك العنف الأليم عليه.

استحالة المتابعة القانونيّة تأتي نتيجةً لعدم استعداد الجهات الرسميّة الاعتراف بتجاوزاتها، وهو ما جعل العنف البوليسي اليوميّ محصنًا ضدّ التحقيق والمعاقبة.

في وقت تتفاخر فيه الجهات الرسمية كثيرًا بخطابات الحريّة الذي تدّعي إتاحتها، في إشارةٍ إلى تشريعها لقوانين مُناهضة لممارسة القمع، إلا أن الواقع الحقوقي والاجتماعي يقول إن مثل هذه القوانين إنما أتت لتحسين الصورة الحقوقية القاتمة خارجيًا وليس لها أي انعكاس إيجابي حتى الآن على مستوى الداخل، كما يقول عبد اللّه بيّان، رئيس المرصد الموريتاني لحقوق الإنسان، الذي مُنع، في نيسان الماضي، من تنظيم مؤتمره السنوي.