القرم تحفّز أخواتها الثماني في شرق أوكرانيا... وغربها

02 ابريل 2014
جنود أوكرانيون أجلتهم كييف من القرم إلى دونيتسك (getty)
+ الخط -

قد تكون شبه جزيرة القرم مجرّد بداية شيء جديد بالنسبة الى روسيا "القيصرية"، أكثر مما هي فكرة انضمام جوهرة البحر الأسود الى ظلال الكرملين.
"سهولة" الاستفتاء وإعلان الاستقلال عن أوكرانيا، ثم الانضمام الى روسيا، في موازاة تسهيل السلطات التشريعية الروسية مراحل الانضمام، أسال لعاب مقاطعات أوكرانية أخرى، وبطبيعة الحال دول أخرى، خصوصاً تلك التي ارتبطت بماضٍ غابر مع الاتحاد السوفياتي.

لم تولد أزمة القرم من "لا شيء"، ولم تكن روسيا بحاجة الى أكثر من "الديموغرافيا" لإعادة الامساك بالقرم.
العامل الديموغرافي، يبقى السلاح الأقوى لروسيا في أوكرانيا. ومع أن الروس لا يُشكّلون أكثر من 17.3 في المئة من سكان أوكرانيا، فإن وجودهم في النقاط الحساسة جغرافياً، ساعد على توجيه ضربات عدّة "تحت الحزام"، لأنصار "الثورة البرتقالية" وورثتها. فضلاً عن أن اللغة الروسية تبقى لغة 30 في المئة من الأوكرانيين. على أن الأمور لا تتوقف عند القرم، فمقاطعات أخرى تتدرّج من شرق البلاد على الحدود مع روسيا، وصولاً الى غربها على مداخل مولدافيا، تترقّب مآل المرحلة المقبلة، ومدى قدرة الغرب على التعامل مع أزمة القرم، عبر اعادتها الى السيادة الأوكرانية أو القبول بمصيرها كجزءً من منظومة روسيا الأم.

خلال الفترة التي سبقت استفتاء القرم، والاحتجاجات الأوكرانية المعارضة للرئيس فيكتور يانوكوفيتش، شهدت مناطق عدّة من البلاد حراكاً مؤيداً لروسيا. دونيتسك وخاركيف وخيرسون نموذجاً.
الروس، وإن شكّلوا أقلية ديموغرافية فيها، غير أنهم أوصلوا رسائلهم الى كييف. فرفع علم روسي فوق دائرة رسمية أوكرانية هنا، أو تنظيم مسيرة احتجاجية هناك، كان كفيلاً في رفع سقف المواجهة داخل "ما تبقّى" من الأراضي الأوكرانية. وعدا عن هذه المقاطعات الثلاث، فإن أوديسا وزابوريزيا وميكولاييف ودنيبروبتروفسك ولوهانسك تبدو ساحات خصبة لنموّ حركة تمرّد

واسعة، قد تصل الى حدود ما أقدمت عليه القرم.

تبدو الإثنية الروسية في منطقة خيرسون، أقلية (14.1 في المئة من سكان المقاطعة)، إلا أن ارتباطها الجغرافي بالقرم، ووقوعها بين مقاطعات أوكرانية "شبه روسية"، سيجعلها أقرب الى القرم. هنا بالذات تسقط المفاهيم الديموغرافية، ويحتلّ العنصر الاقتصادي سلّم الأولويات. ومن أهم العوامل التي يستند اليها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين للدفع أكثر في اتجاه المواجهة، التي برأيه ستكون نتيجتها لصالحه، هو اعتماد أعداد هائلة من الأوكرانيين على روسيا، أكان في العمل مع شركات الغاز أو في العمل داخل الأراضي الروسية المتاخمة للحدود مع أوكرانيا. لذلك رفض بوتين مبدأ "فرض التأشيرات" على المواطنين الأوكرانيين، للابقاء على الارتباط العضوي معهم والضغط أكثر على حكومة كييف، التي تبدو حتى الآن غير قادرة على تأمين أي بديل عمليّ لمواطنيها.

في الأصل يعتمد الاقتصاد الأوكراني على الخدمات (60.5 في المئة من اقتصاد البلاد)، وهو أمر "طبيعي" لبلد ظلّ لأكثر من 70 عاماً "رأس الاتحاد السوفياتي"، على ذمّة جوزيف ستالين نفسه. والخدمات في أوكرانيا لا تُسيّرها سوى روسيا، التي تحتلّ المركز الأول أوكرانياً في التصدير (25.6 في المئة) والاستيراد (32.4 في المئة).

العامل الاقتصادي يبقى الأكثر قدرة على تسيير العلاقات بين الدول، وما تمنّته دول أوروبا الشرقية بعد انهيار الكتلة الشيوعية، جاء مخيّباً للآمال بعد حوالي ربع قرن من ولادة "النظام العالمي الجديد". لذلك، لن تفرّط المقاطعات الثماني بالعلاقات التي تربطها بروسيا، بالأخصّ لوهانسك وخاركيف ودونيتسك، بينما يبدو وضع أوديسا أشبه بـ"الخاص"، ربما لتماسها مع مولدافيا، ولأن مولدافيا تميل تقليدياً الى روسيا في ظلّ عدم قدرة الجبابرة المحيطن بها على دعمها، كرومانيا وأوكرانيا.

مَن ينسى اليوم جورجيا، وتحديداً مقاطعات أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا وأدجاريا، التي تمرّدت على حكم الرئيس ميخائيل ساكاشفيلي؟ لأجل أوسيتيا الجنوبية، اجتاح الجيش الروسي جورجيا في أغسطس/آب 2008 وقرع أبواب العاصمة تبليسي. كان مشهداً غريباً من وجهة نظر المجتمع الدولي أن يقوم رؤساء الأقاليم الجورجية المتمرّدة بزيارات لتقديم الطاعة للكرملين، كما يفعل يانوكوفيتش وزعماء القرم هذه الأيام. بالنسبة الى روسيا لا غرابة في الأمر. من جورجيا كان ستالين، وأوكرانيا كانت مخزن الأسلحة النووية السوفياتية.

ما يُمكن ملاحظته على الخريطة، أن روسيا تمكنت من إقفال مداخل البحر الأسود من جهة جورجيا (أبخازيا وأدجاريا)، ومن جهة أوكرانيا (القرم)، على أن تُستتبع لاحقاً بالسيطرة الفعلية أو الترهيبية لباقي المقاطعات الأوكرانية المطلّة على البحر، ما قد يجعل أوكرانيا دولة من دون بحر، وصورة منقّحة عن تشيكيا أو سلوفاكيا.

حتى الآن نجحت روسيا في منع خطّ نابوكو من العبور من بحر قزوين الى أوروبا عبر جورجيا وتركيا والبحر الأسود، ثم أقفلت المنافذ البحرية والبرّية أمام أوكرانيا، التي تؤدي حالياً الدور الذي لعبته بولندا في مطلع القرن العشرين. الأبرز وسط تلك المعمعة: هل سيسمح الغرب لروسيا في الامساك بكافة منابع الغاز الآتية من الشرق الى أوروبا؟ أو أن ردّ فعل ما سيبرز، وأين يبدأ وأين تقف حدوده؟.

المساهمون