الفن في السعودية: معصيتنا التي نجاهر بها

الفن في السعودية: معصيتنا التي نجاهر بها

13 مايو 2014
عبد الله العثمان / السعودية
+ الخط -

لا تعاني المدن في السعودية من قسوة المناخ الصحراويّ وحسب، فهناك قسوة أخرى أكثر وطأة من سياط الشمس وشحّ المطر: شحّ الفن.

إنه لمن الصّادم فعلاً أن الفنون المرئية والسمعية في هذه المدن تكاد تكون معدومة الحضور؛ فلا قاعات للسينما، ولا وجود للمسرح، ولا للرقص، أو للحفلات الغنائية، ومعارض الفنون شحيحة وضعيفة؛ وكأن المدن بأكملها مصابة بالصمّ والبكم الفنّي. بحيث تبدو مسلوبة الصوت والصورة، أما ثراؤها المادّي فيزيد من فداحة فقرها الفنّي المدقع.

إن العُمر الفنّي لأي مدينة يؤصل عراقتها، ويعيد نسج التاريخ والثقافة المحلية في أشكالٍ أسمى وجودًا وأكثر بقاءً. الفنّ يتغذّى في رحم المدينة على الذاكرة الكامنة للشعوب، ويستمدّ وجوده من الخيال الجمعي، والمخاوف والأحلام العميقة للمدن، وهوامش التاريخ وجمالية الصراع والحياة والموت، ليتخلّق بعدها طفلٌ جميلٌ لا يشبه سوى نفسه، وتجري في عروقه ذاكرة أمّه ـ المدينة.

الفن هو ذاكرة الشعب المتوارية، المجازية، والخلاّقة، إذ تتشكّل في خطٍّ موازٍ وتقاوم بشكلٍ مبطّن ذاكرة السلطة الطاغية. وحين تفقد المدينة هذه الذاكرة الفنية، فإنها تفقد أبعادها العميقة، وتتجرّد من همومها الإنسانيّة لتصبح مجرّد تمثّلات كيميائية لمعادلة الحياة والموت. وتصبح مدناً بمناعة منخفضة وبلا أي خطوط دفاع ضدّ من يحاول مهاجمة ذاكرتها، وتطويع تاريخها لصالحه: إنّها المدن التي يحلمُ بها أيّ مُستبد!

مدينة الرياض، عاصمة يافعة الثراء، تنحدر من تاريخ غني بالترحال والثقافة الشفهية وأساطير الصحراء، وتزخر بأحداث المعارك والمقاومة، لكن تاريخها العميق في ضمور، ومقاومتها الإنسانية ضعيفة، إثر غيابٍ قاتم ومقلقٍ لأشكال التعبير الفنية، وتحديدًا السمعية والمرئية. هذه المدينة تُمزّق دعوات الفن، وتغلق الستائر، لتعيش في الظلمة والعزلة الفنيّة. في قصرها الكئيب، يحتضر التاريخ الموازي، وتتيبّس الأساطير، وتتفحّم آلاف الصور من الذاكرة.

سبب هذا الغياب المُريب لأشكال أساسية من الفن يبدو وكأنّه قادمٌ من خارج هذا العالم. فالفنون، كما يتمّ الترويج لها من خلال منابر الدراسة، والخطب، وغيرها، هي شرورٌ ومُلهيات شيطانية. وهكذا، يتمّ تغريب الموسيقى ومعاملتها كجسد دخيل بشكلٍ ممنهج؛ فالكتب الدراسية تصنّف الأغاني في خانة "الحرام"، والحفلات المدرسية الحكومية ممنوعة من استخدام أي شكل من الموسيقى. حتى اللغة يتم تطويعها لهذا الغرض؛ فالإقلاع عن سماع الموسيقى يُسمّى "توبة"، وسامع الموسيقى شخصٌ لم يمنّ الله عليه بـ"الهداية".

وكنتيجة، لم يعد الفن مرادفًا للجمال والأخلاق والإنسان، بل رديفًا للشيطان والعهر والمعصية. والصور الشائعة المزروعة بدقة في أذهان الأطفال منذ عمرٍ مبكّرة تضمن شيطنة هذه الفنون: أسياخ الحديد الساخنة من جهنّم ستوضع في أذن وستخرج من الأذن الأخرى إن هو سمع أغنية على الراديو، وفي كل مرة يسمع الموسيقى ـ وإن صدفة ـ يبول الشيطان في أذنه!

وحتى في حال نجا أيّ احتفال يتيم من هذه المجاعة الثقافيّة وهذه الحرب المُرعبة، كمهرجان الجنادرية الوطني الذي يقام سنوياً برعاية حكومية (من هنا سرّ صموده رغم الإهانات واللعنات التي توجّه له وللمشاركين فيه) وعُرضت أغنية أو استدعي فنان، هاج الناس، وأزبدوا، وتوعدوا، لتحضر شرطة الأخلاق وعفة النساء، وتقَطع حبال الصوت أو تُحضر مكبّرات صوتها الخاصة في محاولة لإخماد "المنكر". وكثيرًا ما حصلت مشادات جعلت الفنان ينسحب، والأغنية تنتحب، كما حدث مؤخّرًا في مهرجان الجنادرية 2013 عندما تدخّل أحد أعضاء الهيئة لإبعاد الفنانة الإماراتية أريام بعد اعتلائها المنصّة.

وبالمقابل، تواجه أي محاولة لترخيص الموسيقى أو إعادة "شرعنتها" بمقاومة شرسة؛ ففي عام 2010 قام أحد الدعاة السعوديين، الشيخ عادل الكلباني، بإجازة الموسيقى وفق "ضوابط وشروط"، لتعمّ بعد ذلك فوضى حقيقية في الصحف المحلية وشبكات التواصل، وتعرّض الداعية لهجوم غير مسبوق من أعلام دينية أخرى ومن العامّة. وهنا تكمن قوّة المفارقة، حين تُهاجِم المدينة نفسها وكأنّها مصابة بمرض مناعي ذاتي.

ولأنّه لا بدّ من بديل، يتجه الجمهور ـ الذي يعاني نقصًا حادًّا في التغذية الفنية ـ إلى خيارات أخرى، تتدفق بشكل تعويضي و"ممنهج أيضًا" لتسدّ هذا النقص المخلّ، متمثلة في المطاعم والمجمعات التجارية التي تفيض بها كيلًا شوارع العاصمة.

هذه البدائل صنعت أخلاقًا جديدة لمواجهة العالم اليومي: عادات استهلاكية مرعبة، وأرقام فلكية تجعله يتصدّر قوائم الإحصاءات العالمية. فالشعب السعودي يمتلك المعدلات الأعلى في السفر والإنفاق، ونسبة مرضى السكّري والمدخنين في السعودية هي الأعلى في العالم، ومعدلات السمنة آخذة في الارتفاع، ومعها نسب الاكتئاب والانتحار.

خلف هذا المشهد، وفي ظلّ خمول الفن ـ المقاومة الإنسانية الأولى ـ تحتضر ذاكرة المدينة ببطء، في حين تنمو ذاكرة أخرى سرطانية، تفتّت معاناة الإنسان وقلقه الوجودي، وتحوّله إلى آلة لتدوير السّماد على الكُرة الأرضية.


* كاتبة وأكاديمية من السعودية




المساهمون