الفكر القومي وتداعيات الراهن

الفكر القومي وتداعيات الراهن

02 فبراير 2015
+ الخط -

لا شك في أنّ القومية العربية هي إحدى الأسس الفكرية التي عكست، في مضمونها، تحولات التاريخ العربي، على الأقل في القرن العشرين. فلقد تجانست وتماهت مع كثير من بناه وأفكاره، فأثرت فيها وتأثرت بها. كما أنّها اشتبكت في أثناء تطورها، مع الموجة الاستعمارية الأوروبية، التي مثلت الحقبة الكولونيالية، بكل تداعياتها السياسية والاقتصادية، داخل نمط الإنتاج الرأسمالي. وامتدّ الاشتباك إلى الستينيات من القرن العشرين، وقد شمل، في جوهره، معظم أجزاء الخريطة العربية، معتمدا مرجعية نضالية، قوامها التحرّر القومي، ومواجهة الاستعمار الذي تأسّس داخل منظومة العنف والتطرّف، حيث كان عالمنا العربي في الصميم منها. ومن هنا، كانت القومية العربية منخرطة في النضال ضد أخطر نزعات النهج الاستعماري في العصر الحديث، علاوة على ارتباطها بالفلسفة الاشتراكية من خلال نقاط عديدة، سواء على مستوى الممارسة، أو عند الصياغة الأيديولوجية التي تجلّت في النهج الناصري، والخطاب البعثي، كما اختلفت ضمنياً مع المفهوم الماركسي للاشتراكية، ببعده الأممي المتجاوز للقومية، إلا أنّ ذلك الارتباط يفسّر الرغبة الملحة لحركات التحرّر القومي في الانفلات من قيود أيديولوجية المستعمر، ويدلّ كذلك على الحساسية المفرطة للقومية العربية إزاء الإستعمار بكل ألوانه وأشكاله..
إنّنا اليوم نصافح ألفية ثالثة، ونلج رحاب قرن جديد، وعلى الرغم من رياح العولمة التي هبّت من أقاصي الشمال، بهدف تنميط ما يعترض سبيلها، "فإنّ القومية العربية تظلّ تعبيرا عن وعي ملهم، وتشكيلا ثقافيا/تاريخيا عميقا يجعل منها وتصير معه، انتماء ووجودا". وهذا يعني أنّها ليست مجرّد توجّه يزول بزوال الظروف التي رسمته، كما أنّ التجسيد السياسي لأدبياتها يظلّ قابلاً للاجتهاد بهدف التجديد، لا النفي، إضافة إلى هذا "لم تكن، في يوم من الأيّام، قومية توسعية أو استعمارية أو عنصرية، كما حدث للقوميات الأوروبية، بل لعلّ العكس هو الصحيح، فهي قومية ناضلت الاستعمار، وهي لا تشعر بأيّة "خطيئة" في حق قوميات أخرى. وبالتالي، لا ينبغي أن ترث عقابا، كما هو الوضع في ألمانيا، عن جريمة لم ترتكبها كهتلر، ولا هي خاضت حربا كما هو الوضع في كوريا". إلا أنّ التمزّق القومي والظلم الاجتماعي والقهر بمختلف أشكاله، خلق أوضاعا تشبه الأمر الواقع، هي الثغرة الواسعة التي نفذ وينفذ منها الأجنبي لخلخلة أوضاعنا واجتثاث الحس القومي من الوجدان العربي. كما أنّ مغيب شمس الحضارة الإسلامية منذ ضياع الأندلس إلى فقدان فلسطين، لم يبدأ إلا حين غابت الأقانيم الثلاثة عن جوهر النهضة: تفتّتت الدولة الواحدة، وساد الظلم الاجتماعي، وطغت الدكتاتورية العمياء، وكان الفكر العنصري هو الكساء الحريري اللامع الذي يكسو منذ ألف سنة، ولا يزال، هذا التخلّف المروّع لدرجة تهديد أمة كاملة بالانقراض، وقد اتخذ في مساره طريقين:
الاستلاب المطلق، بالاغتراب الكامل عن أسس الحضارة القومية، بالخلط الشائن بين جوهر الحضارة الحديثة من ناحية والغرب من ناحية أخرى، بحيث أصبحت الحداثة والتقدّم والتطوّر كلها معاني ترادف الغرب، وكان ذلك استعمارا حضاريا للعقل العربي ولا يزال.
رد الفعل المطلق، بالانكفاء الكامل على الذات (العشائرية أو القبلية أو الطائفية، غير الوطنية ولا القومية) بالخلط الشائن، أيضاً، بين الحضارة الحديثة والغرب، بحيث أصبح كل ما هو غربي من عمل الشيطان. فلا عجب، إذن، أن تحصل مفارقات نادرة في التاريخ، قد نصاب تبعا لها بالذهول، إذ كيف يمكن أن تفسّر وجود أمّة واحدة ليست مجسّدة في دولة واحدة والأمثلة هنا كثيرة:

- هناك ألمانيا المقسّمة (سابقا) كإحدى نتائج الحرب العالمية الثانية، وهو الانقسام الذي يكاد أن يكون، بمعنى ما، عقابا على نازية ألمانيا الهتلرية وجموحها في شهوة السيطرة على العالم.

-وهناك كوريا المقسّمة كإحدى نتائج الحرب الكورية، ورغبة أميركا في السيطرة على أي جزء من الأراضي الكورية، مهما تناقض ذلك مع إرادة الشعب الكوري، الممزّق بين جنوب مستقر ومتقدّم، وشمال مشتعل دوما بالاضطرابات.

- وكانت هناك، فيتنام، التي ما إن دحرت الاستعمار حتى بادرت إلى الأمر الطبيعي، وهو توحيد الشمال والجنوب.

وهناك مفارقات أخرى تبلورت في سياق التاريخ، وتجسّدت في وجود عدة أمم في دولة مركزية واحدة، كما الحال في الاتحاد السوفياتي ويوغوسلافيا (سابقا) وسويسرا، حيث تعدّدت القوميات والجمهوريات واللغات. ومع ذلك، نجحت التجارب الثلاث في إقامة الدولة الواحدة. فما الذي أصاب قوميتنا العربية..!؟ كل ما نعرفه، "أنّ هناك أمّة واحدة، تضمّنا منذ حوالى خمسة عشر قرنا، وأنّ عوامل داخلية وغزوات خارجية جزّأت الدولة الواحدة التي كانت تضمّ هذه الأمّة، وأنّ الاستعمار الغربي قد اطمأنّ، منذ أكثر من نصف قرن، إلى تأسيس الكيان الصهيوني مشروعاً نهائياً لشق وحدة الوطن العربي، وتفتيته إلى أقطار ودويلات". ومن هنا، شهد الفكر القومي انحسارا أثّر سلبا على المنطقة العربية برمتها، لعل مرده انخراط هذا الفكر في الصراع مع واقع الدولة القُطرية، تلك الدولة التي يمثّل وجودها إحباطا للتيار القومي النهضوي.

يلاحظ المتأمّل للحياة السياسية العربية، من دون جهد ملول، مظاهر التأزّم التي تعيشها المنطقة العربية، والتي ما فتئت تتفاقم، على الرغم من اختلاف المضامين وبقاء الديناميكية على حالها، مما يدلّ على تشرذم الصف العربي، واصطدامه بحقيقة وجود نظام عربي، يستند إلى ثقافة مشتركة، كان من الممكن أن تحول دون "إنتاج" نمط الأزمات، بتأثير روابط القربى، وديناميات عمل النظام، غير أنّ الخلافات أمست من سمات الحياة العربية، وهي تنبع، أساساً، من طبيعة النظام الثقافي-السياسي العربي "فالمضمون قد يكون حدودياً، ذا صبغة سياسية، كما هو بين العراق والكويت والسعودية واليمن، والجزائر والمغرب، وقطر والسعودية، أو كما كان بين قطر والبحرين.. وقد يكون خلافاً حول مستويات العمل القومي، ومستوى الالتزامات المتبادلة بين أطراف النظام العربي كما ثار أحيانا بين ليبيا وبعض الدول العربية المجاورة"، وقد يكون كذلك حول الموقف من الصراع العربي الإسرائيلي، وطرق مجابهة تحدياته، أو وسائل التعامل معه..هكذا، وفي ظل استفحال هذه الخلافات، انخرطت المنطقة العربية في صراعاتٍ أهدرت الطاقات ومميزات التكتّل والتعاون، وعمّقت الفجوة بين الخصوصية القُطرية اللاهثة وراء مصالحها العليا، والتكتّل القومي ببعده الاجتماعي العميق، وعمّت كنتيجة لذلك حالة من عدم التسامح مع الآخر العربي على حساب الرابطة القومية، مما أذكى الخصوصية القُطرية في سعيها الحثيث لاستقلالية التعبير السياسي عما تراه يناسب سيادتها الوطنية.. ومن هنا يبقى السؤال المهم في هذا السياق: كيف يمكن تجاوز حالة الركود السياسي، وما أفرزته من انحسار وتراجع للفكر القومي، في ظل هذه التداعيات، حيث يسيطر التباين والاختلاف على الخطاب العربي، بمختلف أدبياته. وبمعنى آخر، كيف نتيح الوسائل الناجعة لحلحلة أوضاعنا وتطوير نظامنا العربي بما يرقى بطموحات هذه الأمة إلى المستوى المنشود..؟

avata
avata
محمد المحسن (تونس)
محمد المحسن (تونس)