الفصل العشائري.. عصابات نافذة تبتزّ العراقيّين

26 مايو 2016
ربما وقع ضحية إحدى العصابات (أحمد الربيعي/ فرانس برس)
+ الخط -

عادة ما يتوخّى كامل خميس الحذر لدى مروره في بعض الأحياء الشعبية في العاصمة العراقية بغداد بسيارته. أحياناً، يرفض طلب زبون إيصاله إلى حيّ معيّن، وإن كان قريباً ويساهم في زيادة دخله. دائماً ما يردّد: "لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين".

ليس لدى خميس أيّ مصدر رزق آخر غير عمله كسائق سيارة أجرة لإعالة أسرته المكوّنة من خمسة أفراد. لكنه خسر كثيراً هذا العام، حين اضطر إلى دفع ديّة بلغت خمسة ملايين دينار عراقي (نحو 3900 دولار أميركي). يقول مازحاً إنّ سيارته هي السبب، لكنّ الأمر يرتبط بتعرضه للخداع. يخبر "العربي الجديد": "أثناء مروري في حي شعبي في بغداد، رمى شاب في مقتبل العمر بنفسه أمام سيارتي، وادعى إصابته بكسور. خلال نصف ساعة، صرتُ مسجوناً في مركز للشرطة بعدما قدّم رجال شكوى ضدي بأنني دهست ولدهم".

يضيف خميس: "عرفتُ حينها أنني وقعت ضحية إحدى العصابات، وما من خيار أمامي غير الرضوخ لمطالبهم. بعدها، تنازل والد الشاب المدهوس ودفعت المبلغ لأنقذ نفسي من سجن لن أخرج منه في حال عدم التنازل عن الشكوى". في ظل ضعف القانون والفساد المستشري في جميع مفاصل الدولة، يعاني كثيرون من الابتزاز الذي تتعدد أساليبه، من بينها "الفصل العشائري" الذي يعرف بـ "الدية"، وهو بمثابة موروث عشائري وُضع لتهدئة النزاعات وفضّ المشاكل والتوصّل إلى حلّ يضمن السلم المجتمعي وعدم إراقة دماء.

وجوده لا يعني أنّ جميع العراقيّين يلتزمون فيه بالضرورة، وقد يتحول الأمر إلى قرار شخصي. لكن المشكلة تكمن في لجوء البعض إلى الحصول على "دية" بأي وسيلة، حتى لو كانت اختلاق الحوادث. وليس مبالغاً القول إنّ بعض العصابات باتت متخصّصة في افتعال الحوادث بهدف الحصول على ديّة. وتختلف وسائل وأساليب الخداع بهدف إيقاع أكبر عدد ممكن من الضحايا، بعد ابتزازهم بإتقان من دون أن يشكّ الضحايا للحظة بهم".

لدى سهيل العزاوي تجربته مع إحدى العصابات. يصف هذه التجربة بـ "المريرة". يقول لـ "العربي الجديد" إنّ في أحد الأيام، طلبت منه امرأة أن يقلها وطفلها (سبع سنوات) إلى مكان معيّن عند الظهيرة، لكنّ إنسانيته كلّفته "مبلغاً كبيراً" في نهاية المطاف. يوضح العزاوي الذي يملك سيارة يستخدمها لنقل البضائع داخل أسواق بغداد، أنه "بدا على المرأة الإعياء الشديد. وطلبت أن أقلها إلى منطقة سكنها مع طفلها الصغير، قائلة إنها لا تملك المال وقد نفدت نقودها بسبب علاج طفلها المريض. كانت تحمل كيساً صغيراً فيه أدوية". يضيف: "قبل الوصول إلى المكان المقصود، اتصلت بهاتفها النقال بأحدهم وأخبرته أنها آتية. حين وصلنا، شكرتني ونزلت مع طفلها، وإذ بمجموعة من الرجال يقتادونني إلى مركز للشرطة، وقد ادّعت المرأة أنني دهست ولدها، وصار الصغير يصرخ مدعياً الألم. وشهد الرجال الذين اقتادوني ضدّي فسُجنت". يشير إلى أنّ القضية تحوّلت إلى فصل عشائري، ودفع سبعة آلاف دولار.

كثيرة هي الشكاوى التي تصل إلى مراكز الشرطة في بغداد وغيرها من المدن. قد يسحب المدّعي شكواه على المدعى عليه، بحسب النقيب علي اللامي من شرطة بغداد، لافتاً إلى أنّ كثيراً ما تسوّى الأمور من خلال الفصل العشائري. يضيف لـ "العربي الجديد" أنّ "العرف العشائري أمر معمول به في العراق. ولا نستطيع، وإن كنّا جهة حكومية أمنية، وقف تطبيق هذا العرف بين العشائر". ويؤكّد علم الجهات الحكومية الأمنية بأنّ "عدداً كبيراً من تلك الحالات لا يتعدى كونه عمليات نصب. لكنّ المدعي يجلب الشهود وجميع الأدلة، بعدما يكون قد خطط لكلّ شيء. في تلك الحالة، لا ينفع نفي المدعى عليه التهم الموجهة إليه". ويرى أنّ محاربة هذه العصابات يتطلب فرض القانون على الجميع من دون استثناء.




كذلك، يشير اللامي إلى أنّ هذه العصابات مدعومة من قبل مليشيات مسلحة. ويشير إلى أنّ "في مرات عدة، اعتقلت عصابات بعد ثبوت أدلة قانونية ضدّ أفرادها. لكنّ شخصيات تنتمي إلى مليشيات نافذة، غالباً ما تتدخل لتسوية القضية والإفراج عن أفراد العصابة".

في هذا السياق، يشدّد عدد من شيوخ العشائر على أنّ افتعال الحوادث من أجل فرض الديّة هو أمر يتنافى مع عادات وتقاليد العشائر العراقية. تجدر الإشارة إلى أنّ شيوخها يرفضون استيفاء مبالغ الديّة على الرغم من استحقاقها في كثير من الأحيان. وهذا أمر يؤكد أنّ "الهدف من الالتزام بالتقاليد العشائرية وبقاء العرف العشائري قائماً في المجتمع، له أهميته، إذ إنّه يهدف إلى الحفاظ على النسيج المجتمعي ورفع الظلم ونشر ثقافة التسامح"، بحسب الشيخ القبلي أحمد العبيدي.

وكانت وسائل إعلامية عديدة قد تناولت من خلال تقارير ومقالات مختلفة، انتشار ظاهرة "العصابات العشائرية" التي تستغل العشيرة لتنفيذ جرائمها. وقد سأل الكاتب المعروف شامل عبد القادر في مقال كتبه تحت عنوان "عصابات الفصل العشائري ثانية"، عن "مصدر قوة هذه العصابات التي تبتزّ المواطنين في بغداد باسم الفصل العشائري، ولماذا لا تُعتقل وهي تمارس دورها القذر؟". في مقاله، أشار إلى أنّه وقع ضحية إحدى تلك العصابات في أحد الأيام. أضاف: "كتبتُ سلسلة مقالات لرئيس الوزراء ووكيل وزير الداخلية، فاستجاب وزير الداخلية السابق بالوكالة عدنان الأسدي، وأرسل ضابطين للتحقيق في قضيتي، خصوصاً أنني لست الضحية الأولى. كذلك، اتصل بي عدد من المواطنين الذين تعرضوا للابتزاز بالطريقة نفسها في مناطق مختلفة من بغداد باسم الفصل العشائري. وقد أخبرني أحد الضباط أنّ والده أيضاً وقع ضحية إحدى هذه العصابات المجرمة".

بالنسبة إلى عبد القادر، فإنّ البقاء هو لتلك العصابات في العراق، خصوصاً أنّ القانون لن يكون يوماً لصالح المظلوم. في نهاية مقاله، يكتب: "أغلق ملف التحقيق، فيما واصلت هذه العصابة عملها في ابتزاز الناس باسم الأعراف، من دون إلقاء القبض على أي شخص".