الصهبجية: أغنية ظلمها مطربوها وأنقذها الشيخ حسني

23 يونيو 2018
الشيخ حسني في "الكيت كات" (فيسبوك)
+ الخط -

أشكال كثيرة للغناء ظهرت واختفت، لكن أثرها باقٍ ويمتد، ومهما اختلط القديم بالجديد. ومهما حدث من تراكمات وتغيرات تاريخية واجتماعية وموسيقية. إلا أنَّ التراث يستطيع الحفاظ على رائحته وسط كل ما يحدث، وتشعر به حتى وإن لم تكن على معرفة من أين قد جاء. لكن يبقى التراث سهل الاستدلال عليه، وتتبعه بالإحساس قبل البحث في الأصول والتاريخ. الموسيقى تحمل التاريخ ويصعب حذفها. كانت أغاني فيلم "الكيت كات" جزءاً لا يتجزأ من الفيلم، ومن شخصية الشيخ حسني. ثلاث أغانٍ في الفيلم على لسان البطل الكفيف: "ورق الفل" وهي مهداة من سيد مكاوي، و"يلا بينا تعالوا" من كلمات سيد حجاب وألحان إبراهيم رجب، وأغنية "الصهبجية"، من كلمات صلاح جاهين وألحان سيد مكاوي.




كان الظهور الأوَّل للأغنية بصوت، إيمان البحر درويش، في فيلم "لقاء في شهر العسل" 1987. ظلم التوزيع اللحن، ولم تظهر حلاوة اللحن المتمثّلة في بساطته وسهولة تكوينه. وظلم أداء إيمان الأغنية ككل، وجعلها تخرج في شكل إعادة توزيعٍ لأغنية قديمة من الفلكلور، أو كي تكون الأسطورة أكثر منطقاً. نستطيع القول إن الأغنية من ألحان جده سيد درويش، هكذا يمكن للأغنية أن تنجح بصوت إيمان، رغم رداءة المنتج في النهاية، ورغم أن البنية الأساسية للأغنية مصنوعة على ميزان من ذهب، لا كلمة زيادة ولا جملة لحنية غير مناسبة أو خارجة عن الإطار اللحني والتاريخي والفلكلوري للأغنية.




نُسبِت الأغنية إلى سيد درويش، وسقط سيد مكاوي من الحسابات. ومع نجاح الأغنية، وتأكيد انتمائها إلى فترة زمنية تراثية، بدأ التعامل معها من تلك الزاوية. سنجد في نفس فترة ظهور الأغنية، أداء سهير المرشدي لها بشخصية "الأسطى سماسم" في مسلسل "ليالي الحلمية". كان الكورس في تلك الأغنية أكثر وفاء للحن الأصلي للأغنية. لكن سهير المرشدي لم تؤد الأغنية بشكل جيد، أو كانت الشخصية في المسلسل تتطلب رداءة في تأدية الأغنية.

ثم في التسعينيات، ومع فيلم داود عبد السيد "الكيت كات". كانت النسخة الأهم والأجمل من "الصهبجية" بصوت الشيخ حسني، الشخصية التي أداها محمود عبد العزيز بتقمص عظيم، وتمكن من كل أدوات الشخصية. لكن لماذا كانت تلك النسخة هي الأهم؟ كانت شخصية الشيخ حسني ملائمة أكثر للأغنية وأجوائها. حتى التوزيع البسيط كان هو الأجمل بين كل توزيعات الأغنية، نجحت الأغنية بصوت الشيخ حسني أكثر، وكتب لها الخلود على يده، ونسي الناس أجمعون نسخة إيمان البحر درويش. وكأن الأغنية كتبت وصنعت للفيلم نفسه، وليس من قبله بعدة سنوات. ولكن ما السر وراء نجاح الأغنية بهذا الشكل مع الشيخ حسني؟ وما هو سر الخلطة التي قدمها الثنائي جاهين ومكاوي"، وكيف صنعوا هذه الأغنية التراثية في لحنها وكلماتها وحتى طريقة أدائها من شيخ حسني، الذي أكد على انتمائها إلى عالم الأغاني الفلكلورية؟

عندما نبحث في أصل الأغنية وكلماتها، نجد أن الصهبجية هو فن كان يمارسه أصحاب الحرف كالحدادين والنجارين وغيرهم، وكل مجموعة تعمل في حرفتها بالصباح، وفي الليل يجتمعون ويغنون أغاني من تأليفهم وارتجالهم، إذْ تكون مرتبطة بحرفتهم ومفرداتها، مستخدمين ألحانا مشهورة من الموشحات أو التراث، غير مهتمين بوزن الكلمات أو مدى ترابط المعنى. يتحايلون على الأمر بالآهات وجمل مثل "يا لالالى" و"يا عين يا ليل"، من هنا جاء وحي الأغنية لجاهين ومكاوي. ويتضح لماذا كان هناك ربط بين الأغنية وسيد درويش أكبر من غناء حفيده لها، وإنما لأن سيد درويش قدم أغاني من نفس هذه الأجواء، مثل "الشيالين" و"السقايين" و"الحشاشين" و"العربجية".




رغم أن الصهبجية كانت فناً اشتهر أصحابه بحرفهم، وهم ليسوا محترفين الغناء بالدرجة الأولى. إلا أنها تُعتبر المدرسة الفنية الأولى في تاريخ الموسيقى الحديثة، ويحدد وقتها من عام 1865، وحتى بداية عصر موسيقى النهضة التي كان على رأسها عبده الحامولي ومحمد عثمان، وكان لها تأثير على تطور الموسيقى، حتى لو كانت تُهاجَم من قبل النقاد والموسيقيين، والتعامل معهم على أنهم حشاشون وغير مؤهلين للغناء والفن، أو أنهم يقدمون فناً مبتذلاً وغير متسق مع الأسس الفنية والموسيقية، وخروج ملحنين من تلك المنطقة مثل عبد الرحيم مسلوب. ويمكن تتبع أثر الصهبجية في عالم الطقطوقات وأنها جزء مهم من تكوين المونولوج الفكاهي فيما بعد.


وظهرت في الخمسينيات فرقة موسيقى للهواة في الإسكندرية تحت اسم "فرقة الدراويش"، بقيادة طالب كلية الحقوق محمد درويش. استمرت الفرقة لعدة سنوات، قدموا خلالها العديد من الحفلات، وشاركوا في أفلام سينمائية، وحققوا نجاحاً كبيراً. لكن لم يستمروا للأسف، وتفرقت الفرقة، لأنهم بالأساس كانت لهم أعمالهم الأخرى. لم يكن هذا التشابه الوحيد بينهم وبين فن الصهبجية، فكانوا هم أقرب من حاولوا تقديم ذلك الفن بشكل جديد وساخر.


لذلك كان أداء الشيخ حسني هو أقرب أداء لحالة الأغنية، وقد نجح في ذلك. ومن فترة قصيرة ظهرت نسخة للأغنية بصوت ملحنها سيد مكاوي. وكان الأداء جميلاً من مكاوي، خاصة أنه كان تسجيلاً في جلسة خاصة. مما أضاف عليها روح الصهبجية حقاً، وكان نِعْم الملحن والمؤدي. غناها الكثير بعد ذلك، مثل خالد الصاوي في مسلسل "هي ودافنشي" ولكنه كان أداء تمثيلياً، وضعيفاً فنياً، وأضاع الكثير من جمال الأغنية.




أما محمد الشرنوبي، فكأنه كان غائباً، وجاء باكتشاف. فقدم لنا الأغنية، ولكن بأداء أقرب إلى إيمان البحر درويش. وكأنه لا يعلم ماذا فعل إيمان وتوزيعه بالأغنية، وكيف أضرها. أيضاً، لم يراع الشرنوبي البعد الفلكلوري والتاريخي للأغنية، فجاءت باهتة بلا طعم، ربما كانت مريم صالح هي الوحيدة التي استطاعت نقل نفس روح الأغنية عندما غنتها في فيلم "بالألوان الطبيعية".



دلالات

المساهمون