الشِّراع المقدّس

الشِّراع المقدّس

11 يناير 2015
(دار بلومزبري ـ مؤسسة قطر للنشر، 2014)
+ الخط -
لا يمكن أن تقرأ رواية "الشراع المقدس"، لعبد العزيز آل محمود، إلا وتتذكر بعضاً من الأعمال العربية العظيمة في الرواية التاريخية، من أمثال "الثائر الأحمر"، لعلي أحمد باكثير، و"سمرقند"، لأمين معلوف، و"ثلاثية غرناطة"، لرضوى عاشور، وسواهم. حيث أبدع الكاتب في سرد وتوثيق مرحلة مهمة وغامضة من تاريخ الجزيرة العربية والهند ومصر والغزو البرتغالي للمشرق وحروب البحار تحت راية الصليب المقدس. 

توثّق الرواية مرحلة شديدة الغموض على مستوى المعرفة التاريخية والسياسية والوعي العام في المجتمعات العربية المعاصرة، حيث سلّطت الضوء على حقبة زمنية امتدت من 1486م. ـ قبل سقوط الأندلس بأعوام ـ وحتى 1521م. وامتد مسرحها الجغرافي من البرتغال غرباً، مروراً بالقاهرة والإسكندرية ثم السويس وجدة وعدن ومسقط وخور فكان وجزيرة هرمز والبحرين والأحساء ونجد، وليس انتهاءً بكاليكوت وديو وسواهم من مدن الساحل الهندي.

ومن حيث التاريخ السياسي، كانت تلك مرحلة نهوض الدولة العثمانية التي كانت تهيمن على تركيا الحديثة وأجزاء من شرق أوروبا، فيما كانت مصر والشام تحت هيمنة دولة المماليك، وفارس وأجزاء من العراق تحت سيطرة الدولة الصفوية، وكانت نجد والأحساء تحت سيطرة سلطنة الجبور. أما ساحل عمان والبحرين، فكانت تحت هيمنة مملكة هرمز، وكان الصراع والتقاسم الاستعماري بين الإسبان والبرتغاليين على أشده للهيمنة على مساحات واسعة من العالم، وفيما اتجه الأسبان ـ بعد اكتشافات كولومبس ـ غرباً لاكتشاف العالم الجديد، اتجه البرتغاليون إلى الشرق، للهيمنة على سواحل الهند والجزيرة العربية واحتكار الطريق التجاري لبيع البهارات.

كانت هذه المرحلة الزمنية كثيفة بالأحداث المفصلية في التاريخ، حيث شهدت اتفاقية توريسيلاس بين إسبانيا والبرتغال على تقاسم مناطق الاستعمار والنفوذ في العالم تحت رعاية الكنيسة الكاثوليكية، ومحاكم التفتيش، وسقوط الأندلس، ومعركة جالديران، التي انتصر فيها العثمانيون على الصفويين واحتلوا عاصمتهم تبريز وأوقفوا توسعهم لقرن من الزمان، ومعركة مرج دابق، التي انتصر فيها العثمانيون على المماليك وكانت بداية أفول دولتهم، كما شهدت وصول الأساطيل البرتغالية الضخمة المزودة بالمدافع إلى سواحل شرق أفريقيا واليمن وعمان والبحرين وصولاً إلى الهند، وما خلّفته من دمار وقتل وتنكيل ورفع لرايات الصليب على جميع المدن التي قاموا باحتلالها، ثم خطتهم للتوجه إلى المدينة المنورة التي انتهت في جزيرة كمران، جنوب البحر الأحمر، ولم يتجاوزوها. إضافة للمعارك البحرية العنيفة بين الأسطول البرتغالي من جهة والأسطول المملوكي تحت قيادة حسين الكردي مع الأسطول النجدي الأحسائي بقيادة ابن رحال وذلك بالقرب من سواحل ديو في شرق الهند، والتي انتهت بانتصار البرتغاليين وسيطرتهم على عدة مدن على ساحل الهند وكامل ساحل عمان وجزيرتي هرمز والبحرين، ومقتل سلطان الجبور مقرن بن زامل الجبري على أيديهم عند سواحل البحرين.

وإضافة للتوثيق التاريخي والعرض المتسلسل والمشوّق للأحداث الذي اعتمد على تقنية تقطيع المشاهد وتتابعها وربطها في إطار درامي واسع، تتميّز الرواية بقدرة فائقة على الوصف، تقرأ صفحاتها وكأنك في ثنايا فيلم سينمائي، ترى المدن القديمة والخانات والعمائم والأديرة والمساجد والأسواق، وتتجول بقدميك في شواطئ الاسكندرية وشوارع القاهرة ومرافئ هرمز وتحت ظلال نخيل الأحساء ووسط واحاتها.

حين قرأت الرواية، سألت الكاتب عن مقدار مطابقتها للحقيقة التاريخية، فقال لي إن كل الأحداث والشخصيات التي وردت في الرواية حقيقية وموثقة في المصادر والمخطوطات، وأن تصرفه كروائي لم يكن سوى في حدود الوصف والحوارات وما تتطلبه الحبكة الروائية.

هناك إنتاجات عديدة في الرواية التاريخية تحدثت عن مصر والشام والعراق في حقب تاريخية متنوعة، ولكن لا نكاد نجد أعمالاً معنية بتوثيق تاريخ الحجاز ونجد والأحساء وساحل الخليج بكل دولها وصراعاتها وتنوعها وثرائها، الأمر الذي يمنح قيمة مضافة لرواية "الشراع المقدس" التي تمثل العمل الثاني بعد رواية "القرصان" ـ وهي تتحدث عن تاريخ المنطقة ذاتها ـ للروائي عبد العزيز آل محمود.

ورغم اعتناء الرواية بتوصيف مرحلة تاريخية، إلا أن ثمة إسقاطات عديدة ترتبط بشكلٍ دقيق بمرحلتنا المعاصرة، حيث صراع الشرق والغرب الهوياتي والسياسي فضلاً عن العسكري، وسنن صعود الدول وسقوطها، وما يصنعه الاستبداد في الشعوب، والخيانات التي تظهر في لحظات المفاصلة والتحول، واستخدام المظلة الدينية في البطش والقتل وتوسيع النفوذ السياسي والكسب المادي، وليس آخراً سيرة ذات الإنسان المهووس بالنفوذ والهيمنة والكسب ولو على حساب مبادئه وأخلاقه.

بالطبع ستغوص مع هذه الرواية في صراعات التاريخ ودسائس السياسة وفواجع الحروب، لكنك ستعيش أيضاً مع كثيرٍ من الأحاديث الاجتماعية ولحظات الأمل والطموح واضطراب الحب والقلق من المستقبل وكل تعقيدات المشهد الإنساني.

أظن أن الجهد الذي بذله الكاتب في كتابة هذه الرواية وتوثيق هذه المرحلة التاريخية المهمة هو عملٌ يستحق الإشادة والتقدير، فقد أنتج لنا عملاً إبداعياً يحكي عنّا وعن تاريخنا وحياتنا بكل ما فيها من بياضٍ وسواد، وذكّرنا بتاريخٍ يجهله الكثيرون، رغم أن إحداثياته وقضاياه لا تفتأ تتكرر في كل زمنٍ وحين.

*من الرواية

"... لم يكن الخواجة ليقول ذلك لو لم يكن يعرف أن هذا الزواج سيحقق مصلحته في إدارة هرمز، فهو يعلم أن الملك شيرغل ضعيف الشخصية وليس هناك سواه لإدارة المملكة، فقد ارتبط اسمه بهرمز منذ عهد الملك الوالد، ولكنه أيضاً بحاجة إلى قوة عسكرية تحمي أملاك المملكة المنتشرة على طول الساحل الغربي للخليج، ومصاهرته لزعيم كابن رحال ستقوي من مكانته وتكرس سلطته على هرمز وخارجها.

وقف الخواجة واضعاً يده على رأس ابنته كعادته معها وكرر قوله:
- فكّري في الأمر يا بُنيتي.
ثم غادر مجلسه تاركاً حليمة وحدها. دخلت خادمتها فرح عليها، وجلست أمامها متأملة وجهها الشاحب:
- لقد سمعت ما قاله لك والدك، صفيه لي يا حليمة، فأنا أكثر مَن يعرفهم في هذه الدنيا، لعلّي أساعدك على اتخاذ قرارك. زفرت حليمة بقوة، ونظرت إلى الفراغ وكأنها تفكر قبل أن تقول:
- لست أدري يا فرح، لقد خطر على بالي مغادرتي لوالدي، ثم تركي لهذه الجزيرة التي أحبها، وهجري لهذا المنزل الذي عشت فيه كل حياتي. إنه أمر صعب أن يترك الإنسان كل ما يحب خلفه ويذهب إلى مكان آخر لا يعرف أحداً فيه ولا ينتمي إليه.

لم تعرف فرح شخصاً أقرب إليها من حليمة، فهي في الثلاثين من عمرها، اشتراها الخواجة من نخاس هندي وهي لم تتعدّ السنوات العشر، ورباها في منزله كابنته، منذ طفولتها وهي تتمنى الزواج من تاجر وتنجب منه أطفالاً، وأن يكون لها منزلها الخاص، وذكرياتها عن مسقط رأسها وعائلتها كالحلم البعيد الذي يحاول أن يختفي من ذكراتها ولكنها تستدعيه من حين إلى آخر حتى لا تفقده نهائياً".

المساهمون