السوداني محمود عبد العزيز

10 يناير 2017
+ الخط -
في منتصف تسعينيات القرن الماضي، كنا نستعد للجلوس لامتحانات شهادة مرحلة الأساس التي تؤهل بعد اجتيازها إلى ارتقاء سُلَّم المرحلة الثانوية. في تلك الأيام، سمعنا عن ظهور فنان جديد في العاصمة الخرطوم اسمه محمود عبد العزيز. وعلى الرغم من قلة وجود الأطباق الفضائية آنذاك، إذ لا توجد ثورة معلومات كما الآن ولا إنترنت، إلا إنّ عبد العزيز تمكّن من حجز مساحة مميزة بين أقرانه الفنانين في وقت وجيز، ساعده على ذلك صوته القوي، واختياره الذكي للكلمات والألحان، إلى جانب عدم اعتماده على أغنيات الآخرين، فقد أنتج في وقت مبكر ألبوماته الخاصة مثل (سكت الرباب)، و(خلي بالك)، و(يا عُمُر)، و(يا مُدهِشة) وغيرها، حيث احتوت تلك الألبومات على 63 أغنية خاصة للفنان الراحل.
أيام قلائل وتحلّ الذكرى الرابعة لرحيل هذا الفنان الشاب الذي شغل الناس، حتى اعتبره نقاد ظاهرة فنية لن تتكرّر بسهولة في تاريخ الغناء السوداني.
محمود عبد العزيز، أو "الحوت" كما يحب أن يسميه عاشقي فنّه، وُلد في حي المزاد في مدينة الخرطوم بحري، يوم الإثنين 16 أكتوبر/ تشرين الأول سنة 1967. وسرعان ما ظهرت موهبته الغنائية التي اجتذبت قاعدة عريضة من الجمهور، ربّما لم يكتسبها فنان سوداني من قبل، حتى كبار الفنانين، إذ تميّز بصوته الطروب وبلونيته المتفردة التي مكنته من الاستحواذ على قلوب ملايين الشباب من الجنسين.
تكشّفت للناس "ظاهرة" محمود عبد العزيز في القُبُول الذي أدهش الناس، سرّه ليس في صوته القوي فقط، بل في بساطته وتعامله مع الجميع، بغير تكلف ولا تصنّع، وما حيّر النقاد أن شعبية محمود عبد العزيز لم تتأثر برحليه، ولم ينسه جمهوره الوفي، إذ مضت أربع سنوات على رحيله، وما زالت الدموع على أعين عشاق فنه، كأن خبر رحيله أُذيع للتو.
لم يأت هذا الوفاء والحب من فراغ، حيث كانت لمحمود رسالة فنية واضحة، إذ تميّز بحبه للضعفاء، حتى قيل إنّه كان يفرد يوماً دورياً للمشردين فيجالسهم ويؤاكلهم ويضاحكهم. وهناك مقطع شهير على "يوتيوب" شاهده أكثر من ثلاثمائة ألف شخص، يظهر فيه محمود وهو يحتفي بأحد ذوي الاحتياجات الخاصة على خشبة المسرح، وجالسه مُغنياً معه فبكى جمهوره من شدّة التأثر.
تُروى عن إنسانيته وحبّه لعمل الخير قصص وحكايات أشبه بالخيال، كانت ثروته الضخمة من ريع فنه الذي لاقى شعبية أسطورية يذهب جُلها للآخرين، حيث كشفت إحدى جاراته في حي المزاد، وهي أرملة، أنّه اشترى لها بيتاً لتقيم فيه هي وصغارها، بعد أن ضايقها صاحب المنزل الذي كانت تستأجره لتأخرها عن سداد قيمة الأجرة، فتصدّى محمود، ولم يتردّد في دفع قيمة المنزل كاملة للأيتام، أيضاً كان ينفق على العجزة، ذوي الاحتياجات، والجزء المتبقي كان يصرف منه على عدد من أصدقائه المقربين.
تعرّض محمود عبد العزيز للسجن والمطاردة، وكان ضيفاً شبه دائم على أقسام الشرطة، إلا أنّه كان وفياً لوطنه، تحفظ له الأجيال مشاركته في الاستنفار الذي دعت إليه الحكومة، عقب استيلاء قوات الحركة الشعبية المعارِضة على مدينة هجليج النفطية عام 2012، إذ شارك بأغنيته "أبقوا الصمود"، على الرغم من رأي أهل الحكم في محمود واعتبار جمهوره امتداداً للشباب المتمرّد الذي لا يكن وُداً للنظام الحاكم.
غنّى "الحوت"، خلال تجربته الفنية للحُب والسلام والحرية، وقد اشتهرت أغنياته حتى انطبعت على رفوف المكتبات وجدران المدينة وملصقات السيارات، فبمجرد ظهور أغنية جديدة لمحمود، تجدها حديث الناس وتسمعها في الكافيهات والمركبات العامة، حتى إن موديل سيارة "تويوتا" لعام 1998 أُطلق عليه اسم "لهيب الشوق" تيمناً باسم ألبوم غنائي للفنان الراحل، تزامن ظهوره مع موديل العام من السيارة، كما خاض محمود تجربة المسرح من خلال مسرحية "تاجوج" الشهيرة.
لن ينسى السودانيون ذلك اليوم من شتاء 2013 الذي أعلن فيه وفاة الفنان المحبوب محمود عبدالعزيز في الأردن، بعد صراع طويل مع المرض، فقد عمّ الحزن ربوع البلاد، واستحوذ الخبر على اهتمام القنوات الفضائية العالمية والصحف العربية، وحتى جوبا عاصمة جمهورية جنوب السودان الوليدة يومئذٍ، اتشحت بالسواد تأثراً برحيل محمود، فقد كان الراحل يُكِن عشقاً ومحبة خاصة لأهل الجنوب، إذ غنى لهم رائعته "في مدينة جوبا" باللهجة المحببة التي تعرف ب "عربي جوبا".
تفوق محمود عبد العزيز بشعبيته المبتكرة والخلاقة على كل الأحزاب السياسية السودانية، بكل قياداتها وميزانياتها وأموالها، حتى الحزب الحاكم لا يستطيع أن يحشد مثل هذا الحضور والشعبية، لأنّ "الحوت" عرف كيفية الوصول إلى جيل الشباب، بأغنياته وفنه الراقي، حتى فرض ثقافة "حوتية" عامة، تجاوزت كبار الفنانين في الساحة السودانية. كان محمود بسيطاً ولم يكن "مصنوعاً ولا متجملاً". وهنا يكمُن السر.
71F29908-DD1C-4C71-A77C-041E103F4213
71F29908-DD1C-4C71-A77C-041E103F4213
محمد مصطفى جامع
كاتب سوداني.
محمد مصطفى جامع