السلطنةُ عند المصريين

السلطنةُ عند المصريين

14 يناير 2016
صعيد مصر من أوله لآخره يطرب من "سلطنة" التهامي(فيسبوك)
+ الخط -
كان موعد التاسعة ليلاً مقدساً بالنسبة لي كطفل وأنا أرى جدتي تتجه سريعاً إلى الراديو كي تضبط أثيره على تلك الإذاعة التي حيرتنا كثيراً، فتارة يطلقون عليها "إذاعة أم كلثوم" وتارة أخرى تثار حولها الشكوك على أنها إذاعة إسرائيلية!!


فلم يكن من المعتاد أن يقدم الراديو أو أية وسيلة إعلامية ما يجذب الناس ويطربهم إلى هذا الحد، كان صوت أم كلثوم ينساب عبر أثير الراديو فأرى جدتي وقد علاها ما يطلق عليه المصريون علامات "السلطنة" من كلمات وألحان تأخذك إلى عالم آخر لم يكن يشوش عليه وقتئذ فضائيات ولا إنترنت ولا هاتف جوال.

تبدأ جدتي في الدندنة مع ألحان السنباطي ووصلة "الست" في بهجة حقيقية لا يمكن أن تمحى من ذاكرتك كطفل أو تتجنب أن تنتقل إليك تلك العدوى والرغبة في الاستمتاع بهذه الحالة من "السلّطنة" ولا أخفيكم أن تذوق تلك الكلمات في ذلك الزمان كان مختلفاً ومؤثراً لأبعد حد.

تتسع رقعة مصطلح "السلطنة" عند المصريين، وبدون الدخول في تفاصيل المصطلح الذي ربما كان له جذوره القديمة منذ أن كانت "السلطنة العثمانية" تسيطر على مصر، أو ربما هو وصف لحالة من النشوة بكونها استمتاع "سُلطاني" حيث تتوافر للسلاطين ما لا يتوافر لغيرهم من العوام من المتعة، المهم في ذلك أن البسطاء من المصريين استطاعوا أن ينتزعوا شيئا من مظاهر"السلطنة" وعاشوها ببذخ كذلك.

فصباح المصريين كان عامراً بالسلطنة، على نغمات صوت فيروز، أو على ترتيل خاشع يحمله أثير إذاعة القرآن الكريم للحصري أو المنشاوي أوعبد الباسط، الذين كان لهم مريدون و"سميعة" يطوفون خلفهم في الاحتفالات والمناسبات للاستماع لأصواتهم الذهبية، يبدأ البسطاء يومهم بهذا الخليط مبكراً في محالهم أو يدورون به في سياراتهم الأجرة في ساعات الصباح الأولى تفاؤلا وتبركاً.

الرغبة في استدعاء الإحساس "بالسلطنة" لا يحدها حدود ولا تتوقف عند صوت معين أو نغمة معينة، فصعيد مصر من أوله لآخره يطرب في "سلطنة" لمديح ياسين التهامي وابتهالاته، والموسيقى المميزة التي تصاحبه حتى غدا الرجل رمزاً ثقافياً لهذا الجزء من الوطن.

ومن عوامل السلطنة لدى المصريين "المقهى" أو "القهوة" كما يسمونها، فعالم المقهى بالنسبة للمصرين هو عالم "السلطنة" خارج حدود المنزل، فهي ملتقى الأصدقاء و"الشلّة" والمسرح الذي تنطلق عليه آخر النكات والضحكات، كما أنها نادي المصريين السياسي والاقتصادي، وهي الاستاد الرياضي الذي لطالما تحول لساحات نزال ما بين مؤيدي الأبيض والأحمر قبل أن يتوجه ولاء المصريين مع ظهور الفضائيات للأرسنال والريال، وفي المقهى يُقدم مزيج "السلطنة" مشروبا كان أو دخاناً، عالماً أخترعه المصريون وطوروه ومازالوا.

واذا ما انتقلنا إلى تلك الأماكن التي يعتبرها المصريون قرينة "للسلطنة" فإن نهر النيل وجلساته صيفا كانت أو شتاء تأتي على رأس القائمة، فمجرد المشي فوق أحد جسوره أو الجلوس على ضفتيه مستمتعا بكوب من الحمص الدافئ شتاء أو الذرة المشوية، هي قمة السلطنة وكفيلة بأن تنتشلك من حالات الاكتئاب وتشعرك بالنشوة والسعادة.

وبالرغم من بساطة المتعة وتكلفتها الزهيدة إلا أن البعض أبى إلا أن يزاحم المصريين في تلك المتعة الربانية فتحولت ضفتا النهر الكهل إلى مراسٍ للمراكب السياحية الفخمة، ونوادٍ وقاعات أفراح للمؤسسات والهيئات الحكومية، وما بقي من شريط ضيق للمصريين تتكدس فيه أعدادهم الهائلة في المناسبات المختلفة، فتصبح النزهة في ذات المكان لعنة ومكاناً يتجنب البعض مجرد المرور بجانبه في الأعياد والإجازات.

وللأكل نصيب لدى المصريين في استكمال مظاهر"السلطنة" فأيا كانت ميزانيتك أو موعد وجبتك يمكنك أن تحيلها إلى "السلطنة" بسهولة عجيبة، فطبق الفول على العربة التقليدية القابعة على ناصية حارة ما، أضحت مزارا لدى كثير من المصريين يتنسمون منه عبق زمن مضى قبل انتشار محلات الفول في كل ركن من أركان المحروسة.

كذلك ربط المصريون أماكن معينة بأطعمة معينة إمعانا بالاستمتاع، فالحسين ذلك المزار السياحي الديني هو مستقر الأكلات الشعبية الأكثر سلطنة لدى المصريين، في حين تبدو وسط البلد أكثر عملية وديناميكية يلائمها طبق الكشري السريع التحضير في العديد من محلاته الشهيرة التي تضرب لها أكباد الإبل من مصر الجديدة ومدينة نصر.

ربما يفتقد الكثير من المصريين اليوم تلك الحالة وسط الزحام الخانق الذي يجعلك تفكر ألف مرة قبل أن تأخذ سيارتك سعيا خلف أي من تلك الأهداف السلطانية، تجنبا لمعاناة تجنيها من المرور الخانق والازدحام المزعج أو افتقادك لمكان آمن تترك فيه سيارتك حتى ولو بين يدى "سايس" يأخذ منك مبلغا لا بأس به كنوع من الإتاوة كي يوفر لك حماية زائفة لسيارتك المتواضعة.

وبالرغم من أن المصريين قد طوروا من آليات الاستمتاع المكاني في بيوتهم، فغدت جلسات الأسطح في عصاري أيام الصيف موسما للاستمتاع بنسيم الهواء البارد وتناول أكواب الشاي كطقس ثابت ممتع أجهزت عليه اليوم أعداد الأبراج العالية الهائلة التى أنهت أسطورة "السطوح" الممتعة فاختفى السطح ليظهر مكانه أطباق اللاقط الفضائي"الدش" بمناظرها القبيحة، وإن وجد السطح فقد غدا مغتصب الخصوصية ومسرحا مكشوفا لساكني الأبراج العالية.

لا شك أن المصريين كانوا في ما مضى أصحاب مزاج عالٍ رائقٍ، كما كان يطلق عليهم، ولما لا فالماء والهواء والعادات والتقاليد كلها كانت تصب في نهر راحة البال والاستمتاع بالحياة، فكانت الضحكة لا تفارق الوجوه وكان الحب والتعاون سمة يعرف بها المصريون دون غيرهم.

لكن لا الماء ظل ماء ولا الهواء بقي على حاله، فمصر اليوم هي الأولى عالميا في تلوث الهواء بما لذ وطاب من الملوثات، وماؤها إن لم تحاصره المنشآت القبيحة التي قصرت الاستمتاع به على أغنيائها، بات أكثر تلوثا من الهواء الذي يستنشقه أبناؤها.

اختفى صوت رفعت وعبد الباسط وأم كلثوم وفيروز ليحل محلها أولاد سليم اللبانين ونجوم المهرجانات الشعبية التي أضحت علامة تلوث سمعي تحملها "التكاتك" إلى داخل منزلك المغلق الإحكام بمجرد مرورها في شارعكم الضيق، تبدلت البسمة وارتسمت علامات الكآبة فوق الوجوه التي باتت تنهكها رحلة المواصلات التي تستمر لساعات في الصباح والمساء، كوصلة تعذيب كتب على المصريين أن يتذوقوها يوميا، ولا تحدثني عن الطعام فنحن المصريين غدونا المستهلك الأول للحوم الحمير في العالم على ما يبدو، وفي ظني أنه ليست ثمة "سلطنة" يمكن استدعاؤها في ظل هكذا حياة.

(مصر)

دلالات

المساهمون