الرجل الذي كان ميتاً

الرجل الذي كان ميتاً

15 مارس 2016
قصر المدينة لـ سيزان(Getty)
+ الخط -

صاح المنادي بصوت مختنق متقطع متوسل ومرتجف: ياقوم، ي — ا قوووووم هنا رجل ميت!
توقفت الطيور عن الزقزقة فوق أغصان الأشجار كأنما جفلت، ولاذت نحو أعشاشها داخل تجاويف الغصون، فيما فرت مجموعات أخرى مبتعدة..
جمدت الكائنات في مكانها بحذر، فساد الصمت.
ارتفع الصوت أكثر: هنا رجل ميت. ارتدّ الصدى خلل أشجار البلوط والقيقب والسنديان، والزعرور بأوراقه الأبرية القصيرة، ليتبدد الصوت ويتلاشى مع الضباب المنتشر بكثافة، كأنما يطلع من باطن الأرض!
الحصان واقف برأس يعاين صاحبة المسجى أمامه بملابسه الصوفية الثقيلة، بعينين ذابلتين مغرورقتين بدمع محتبس، فيما «المحراث» مركون داخل خرج قماشي قديم يمتلئ ببقع الزيت الداكنة لا يزال فوق ظهر الحصان قبل أن يقع الرجل مغشيا عليه من فوق ظهر حصانه ليجثو فوق الطين والحجارة، أمام عيني صاحبه الواجم والعاجز.
هنا رجل ميت.
كرر النداء أكثر من مرة، لكنه في هذه المرة رفع يدية الإثنتين للأعلى وكرر النداء بصوت لم يستطع أن يمنع ارتجافه.
الزمن كانوني بارد، والوقت صباح نهض للتو، وسحب الضباب تغطي وجه الأرض، والسماء تنذر بمطر غزير وشيك، فيما الريح طائر ضخم يصفق بجناحية ويعصف بكل شيء!
استجمع الرجل قواه، اقترب منه، وبأصابع مرتجفة تحسس نبضه بصعوبة من بين قطع الملابس التي كان يرتديها الميت. -«فكر أنه يرتدي خزانة من الملابس الصوفية بالألوان كلها كي يقاوم هذا البرد القارس»- كان نبضه ضعيفا واهنا، أيقن أنه لا تزال به بقية من حياة تسري في روحه، فارتفع صوته ثانية بالنداء من جديد.
على مبعدة منه، وراء أجمة كثيفة من أشجار القيقب والنبق والخروب دائم الخضرة، كان رجل يرعى أغنامه بالقرب من السهل المعشب، فتناهى لسمعه صوت فزع مرتجف متردد يصيح.
أصاخ السمع جيدا، فيما أصابع يده امتدت لتكشف من تحت "طاقيته" الثقيلة عن أذنه ويصغي بهدوء.
هش على أغنامة كأنما يرتجي سكوتها الآن.
مشى بخطوات قصيرة حذرة مرتابة حول المكان، مصغيا متطلعا بالجهات كلها، من بين الضباب المتكاثف فوق وجه الأرض لمح حصاناً واقفا برأس متدل نحو الأرض بلا صاحبه ولا يزال «الخرج» فوق ظهره!.
هش على أغنامه ثانية بغضب.
لم يكن ليخشى من خرافه الصغيرة البيضاء بصوفها السميك، فهي من الصعوبة أن تتحرك من مكان رعيها! بل كان يخشى أغنامه، فهي من تجلب له المشاكل من أصحاب المزارع المجاورة: إنها لا تهدأ أو تستقر بمكان كثيرة التنقل والحركة، ولا يعجبها شيء، كانت تترك الأعشاب التي أمامها مع أنها خضراء وما تزال طازحة دون أن تقضم منها شيئا، وتجنح للمزارع الأخرى بسرعة الريح.
طار الرجل نحو جهة الحصان رافعا ثوبه كي لا يتعثر بوحل الطريق الترابي مسدلا شالاًصوفياً أسود فوق رأسه ويلف وجهه، كاد أن يقع بخطواته المتسارعة بالطين أكثر من مرة، إلّا أنه كان يعتمد على عصاه، كان قد انتقاها من جذع شجرة سنديان معمرة في الغابة.
نسي أن يتوقف في سيره ليلقي ولو نظرة نحو قطيع أغنامه التي تركها وراءه.
وصل لمكان الحصان وصعق بما رأى.
رجل صاحب جثة هائلة، «فكّر أنها أضخم جثة شاهدها لرجل في حياته» يرتمي أرضا بملابسه الصوفية وبجانبه رجل آخر يجهد أن يمنحه حياة مرتجاة.
– ما الأمر؟. قالها بأنفاس تلهث.
– لا أعرف. جئت من أعلى التل، ذاك بيتي، قال الرجل وهو يشير يبده نحو بيت يقع أعلى التل، مضيفا: رأيت الحصان واقفاً بلا حراك دون أحد فأدركت على الفور أن ثمّة ما يحدث، ساعدني لنحمله الآن، لا وقت لدينا، لا أعرف ما الذي حدث له، ربما هو ميت، وربما وقع مغشياً عليه من شدة البرد، يحدث هذا.
تقدم بيد مرتجفة نحو الرجل وأخذ يخفف من ملابسه، فيما أخذ المنقذ يدلك يديه حينا وصدره حينا آخر.
– لا بد من حمله وإسعافه، قال المنقذ. هيا، لا وقت لنضيعه!
حمل الرجلان «الميت» فوق أكتافهما وشقّا دربهما بصعوبة نحو منزل الرجل والذي يبعد مسافة لا تقل عن مسير ساعة، ربما أكثر أو أقل قليلا.
كان الرجل ضخما، فزادت الملابس من وزنه الثقيل بالرغم من تخفيف قطعة من ملابسة، فغدا وزنه ثقيلا أكثر بشاربين كثّين وغير مشذّبين، وجه طولي بملامح شاحبة وعينين مسبلتين.
– هل هو ميت؟
– لا أظنه كذلك. ربما وقع مغشيا عليه من شدة البرد، لا يزال به بقية من نبض إلا أنه ضعيف واهن.
أظنه البرد. قال الراعي، – نسي أغنامه الآن تماما، وربما أصبحت في أراض ومزارع تعود ملكيتها للآخرين!
ربما هو ميت، إنه لا يتحرك؟ قال الراعي وأضاف: ربما علينا دفنه.
سنرى بعد قليل، على مهلك يا رجل. لقد اقتربنا من الوصول. قال المنقذ وهو يتوقف ملتقطا أنفاسه بصعوبة.
ما الذي دفعه للخروج في هذا الطقس البارد؟ لم يحن موعد حراثة الأرض! هل تعرفه؟
أظنه غريبا، لم أتعرف عليه!
– ربما هو ميت، إنه ثقيل، أعني جثته غدت ثقيلة تماما كجثة ميت! قال الراعي وهو يتطلع نحو المقبرة.
– تقع المقبرة بالقرب من الطريق وسط أجمة أشجار القيقب والسنديان، لا يميزها عن الغابة سوى سور من الأسلاك الشائكة السوداء يمتد من الجانبين وينتهي عند بوابة خضراء عالية.
– لا أظنه ميتا، لا يزال ينبض. أستطيع أن أدرك هذا الأمر جيدا. قال المنقذ.
– لنواره في التراب، ألا تظن هذا؟ أليس إكرام الميت دفنه!؟ نحن أمام بوابة المقبرة، قال الراعي وهو يغطي رأسه جيدا، وأضاف: لا بد من دفنه، لقد بدأت تمطر، هيا سنريحه ونستريح، نصلّي عليه صلاة الجنازة.. و... تذكّر أغنامه الآن، إذ قد تكون أصبحت ترعى في المزارع المجاورة كما يطيب لها!
أعوذ بالله، اصمت. قاطعه المنقذ: لا يزال الرجل حيا،
«فال الله ولا فالك» لم يتبق سوى خطوات قليلة ونصل المنزل.
وصل الرجلان لبيت المنقذ.
وضعا الرجل فوق الفراش.
السلام عليكم، الأغنام، أغنامي، قال الراعي وهو يولي ظهره مهرولا نحو الطريق.
سارع الرجل لإشعال المدفأة الحطب بمساعدة زوجته. سرعان ما انتشر الدفء وساد بالغرفة.
أحضر سمنا وخلطه بملعقة من العسل الساخن وألقمه للرجل المسجى بقطعة وحيدة دافئة من الملابس، ودثره بغطاء صوفي ثقيل.
بدأ الرجل يتعرق وأخذ يتململ بعد أن أحس بالدفء يسري في جسده كله.
ندت حركة تجشؤ حينما أحس بجوفه سخونة السمن والعسل فتطاير الرذاذ فوق أصابع الرجل وذقنه الملثمة.
حمداً لله. قال الرجل صاحب البيت. حمداً لله. أنت محظوظ، كررها ثانية من مكان غائر قصي وعميق.
انهض يا رجل. أنت بخير.
حاول الرجل أن ينهض بجذعه إلا أنه أخذ ينتفض من جديد كطائر مبلل بالرغم من الدفء المنتشر حوله.
سآخذك للمشفى. بعد قليل سيحضر جارنا صاحب «البكب» أعني لديه «بكم» قال الرجل، مخفيا قلقا أحسه من أعماقه.
بعد مرور زمن قصير، أقل من شهر، وربما أكثر قليلا، دق باب الرجل المنقذ رجلان ضخمان بملامح قاسية ومتشابهة.
سارع الرجل بنفسه وفتح بابه الخشبي.
وجها لوجه ثانية، عرف أحدهما على الفور، كان الرجل الميت برفقة رجل ضخم يشبهه، لا بد أنه شقيقه.
تفضلا، أهلا و…
قاطعة: لا أهلا ولا سهلا بك،
عليك اللعنة من الله. قال الرجل الميت: كنت تريد دفني وأنا حي، أنت وصاحبك، ألا تخافان الله؟ لم أكن ميتا. كدت أن أصرخ بكما أن توقفا، فقط كنت أشعر بالبرد ينخر بعظامي كلها، جردتني من ملابسي، حتى الكنزة الصوفية التي لا تفارق جسدي صيف شتاء سرقتها أنت وصاحبك، إلا أنني لم أتمكن من الصراخ لوقفكما، شيء ما منعني من ذلك، ربما البرد. وربما الخوف فاستكنت مرغما لهدوئي.
عليك اللعنة أنت وصديقك الراعي، ألا تخشيان الله؟ أنت من اقترح حملي فحملتني بلا ملابس،! قتلني البرد. ويحك. اللعنة على وجهك حتى يوم الدين.
يتذكر الرجل أنه كان لايزال واقفاً بباب بيته، لم ينبس بكلمة واحدة، يداه المعلقتان بأكرة الباب الخشبي أخذت ترتخي قليلا قليلا، لتبدأ أصابع يديه بالتساقط إصبعا وراء إصبع وهو يحدق بها بعينين لا تطرفان.

(قاصة وكاتبة أردنية)

المساهمون