الرافعة

الرافعة

03 فبراير 2015
عجائب المخلوقات وغرائب الموجودات، القزويني، القرن السادس عشر
+ الخط -
بدا كأنهم يرقصون...
كان الثلاثاء الثالث من شهر ديسمبر، وشرائح الجليد بدأت تغطّي الجداول على جانبي الشارع. الناس يتجمعون في ساحة كاج أفواجاً، وهم يفركون أيديهم، فتتحرّك أكتافهم، أعمدة الأنفاس تتحلّق فوق رؤوسهم. قد أغلقت الشرطة جميع الشوارع الفرعية المنتهية إلى الساحة منذ الثالثة عصراً. كانت هناك رافعة ملأت الزاوية اليسرى من الساحة قريباً من بناية المصرف غير المكتملة.
على مسافة خطى من الجماهير توقفت سيارة تاكسي برتقالية. دار السائق إلى الوراء، فبدأ الركاب ينزلون واحداً بعد آخر. مراهق يسوق دراجته الهوائية بهدوء، فإذا بمقود دراجته يشتبك مع مرآة التاكسي، فتتوقف العجلة الأمامية للدراجة. ينزل السائق، ويمسك ياقة المراهق، فيمدّ عنقه ليقرّب رأسه إلى وجه السائق، فيترك السائق ياقة المراهق قائلاً: "آه! ما هذه الرائحة الكريهة التي تخرج من فمك يا لعين!".
يردّ المراهق: "اغرب عن وجهي!". 
أغلق السائق باب سيارته بشدّة، ثمّ أخرج رأسه من الشباك وهو يقول: "اصبر حتى تكبر، بعد ذلك اشرب العرق يا كتكوت!"
حينئذ تقدّم من جانب الفرن عجوز ارتدى قبعة الشابو، وهو يقول: "اذهب يا بنيّ، السيد في عمر والدك، لا تتشاجر معه".
ثمّ أقبل نحو السائق الذي بدأ يشعل سيجارته ليقول له: لا تغضب يا أفندي، لا يفهمون إلا حين يوضع حبل المنشقة على أعناقهم". ثمّ رسم بإصبعه دائرة في الهواء وهو يشير برأسه إلى الساحة، ليتابع قوله: "مثل ذلك الذي سيشنقونه بعد قليل في الساحة".
لوّح السائق بيده للعجوز، ورجع بسيارته إلى الوراء. وبدأ العجوز بالسعال إثر خروج الدخان من عادم التاكسي، فأخذ منديله المطوّي بالعناية أمام أنفه.
رطبّت شابة شفتيها اللامعتين وسألت: "عفواً يا سيدي! ما الخطب؟".
غمز شابّ صديقه وأجاب: "لا شيء. الحبل بالمجّان. الناس يذهبون مجاناً إلى السينما".
ردّ سامان: "الفيلم السينمائي بنصف سعره. لدينا تذكرة".
رمى الشابّ بسلسلته إلى باطن يده الأخرى، وطارد الشابة بضع خطوات: "خذي رقمي، ربّما احتجت إليه. اثنين، أربعة، صفر، ثلاث ستات. ساعة 11 ليلاً، لا تخونيني!".
كان قرص سنگك يابس معلقاً من أنبوب على جبهة الفرن. أربعة رجال يحيطون عامل الفرن الأسمر، وهو يقول: "كلامك صحيح تماماً. نعيش أياماً سيئة. هؤلاء الكتاكيت لا يعرفون كيف يُستخدم السكين في النزاعات. بمجرد أن تلتقي نظراتهم ببريق السكين يقتلون إنساناً". قال وهو يمسح بيده العجين المعلق بفوطته ردّاً على رجل قال إنّهما كانا صديقين: "مضى عصر القبضايات يا سيدي. لو كان أحد يستلّ سكينه في الماضي، لرسم بعض الخطوط الصغيرة بالسكين على عضد من ينازعه، ولو رآه جريئاً لبالغ في الهجوم عليه".
قاطع الخباز بحاجبيه المغشيين بالطحين كلام العامل، بعد أن أشار إلى المخبز، وأهاب به: "اذهب واطفئ الفرن، خسرنا رزقنا اليوم"، ثمّ التفت إلى رجلين ظلّا واقفين هناك وقال لهما: " كان في مثل هذا الوقت، أو ربما بعده بقليل. كان قد بدأ الظلام، فجاء ابن السيدة انكجي، العجوز التي تسكن في حارة مرغي، فقال لي بعد أن أعطاني مئتي تومان: "أريد خشخاشيتين محمّرتين".
ـ ها! كان طرف الآخر في الصراع، ابن كُلريز الكهربائي. كان أخيراً قد نجح في القبول بالجامعة . لم أر متى جاء. كنت أبحث في الدرج عن الفراطة للزبون. ماذا حصل يا أخي؟ المسؤول؟!
ـ من أين أعرف ذلك؟ يقال كانت بينهما مشكلة، لكنني لم أفهم متى تصارعا. حين رفعت رأسي وجدت ابن الكهربائي مطروحاً على الأرض وهو يتقلّب مثل الكبش المذبوح.
إنّ صوتاً كصوت شاحنات خلط الإسمنت، قد دوّى في كلّ مكان، فبدأت أبواب الحوانيت تغلق واحدة تلو الأخرى، وأمسى أصحابها يتسكعون قريباً منها. فجأة صاح رجل يحتضن صغيره: "جاؤوا به. والله جاؤوا به" أجهش الطفل بالبكاء من صوت الرجل، وأخذت المرأة الطفل من الرجل وسحبت قبعته لتغطّي أذنيه، وهي تقول: "أخفت الطفل!" ثمّ وضعت إحدى يديها على كتف الرجل، فوقفت على أصابع رجليها.
ـ أنت كذّاب، أين هو؟
ـ لماذا أكذب، هذا هو! في سيارة الإسعاف السوداء.
قال الشابّ الذي اسمه ميلاد: "أكان رضا يستحقّ ذلك، أم لم يكن؟ إذا جاء أحد ليسرق صديقتك، أتقف مكتوف الأيدي؟" 
ـ كان التافه يدّعي الصداقة؟
ـ لا تقل أنت كلاماً فارغاً يا جحش! لا يغتاب الإنسان ميتاً.
ـ ....
دوّى صوت مكبّر قوى الأمن الداخلي، وطلب صوت مزكوم من الناس الابتعاد عن الساحة. قال أحد الشباب: نحن سيئون جداً، لو كنا أوادم لاقتحمنا الساحة...
ـ ضرطت يا عبقري! أية حماقة نرتكبها مع هؤلاء الجنود كلّهم؟
ـ دعه يا أخي، هو تأثّر بهذا المناخ!
قال الذي اسمه ميلاد، وهو ينظر إلى نار سيجارته: "يعني لا يمكن فعل شيء؟".
فردّ عليه أحد الشباب: "لماذا لا يمكن. لمّا جاؤوا بنادر، وربطوا عنقه بحبل المنشقة، تقدّم مرفوع الهامة، وقل لهم بحياة أميّ إنّه بريء".
ثمّ أدار عنقه، وهو يحرّك حاجبيه إلى الأعلى والأسفل، وأضاف: "ثمّ تخرج عنقه من الحبل، فتربطه في عنقك!".
ضحك الشباب بصوت منخفض هذه المرّة.
دفع ثلاثة من الشباب الذين كانوا حوالي كشك الجرائد الناس، ليفتحوا الطريق. ودفع الشاب الذي بيده السلسلة بقوّة عجوزًا مجدورًا وقال له: "اذهب جانباً يا عجوز، لا يوزّعون الحلوى!".
قال المجدور وقد استشاط غضباً: "سيدي! كلّهم عاطلون. يجب أن يضعوهم في الأكياس ويرموهم في مياه الصرف الصحي".
بقي صاحب القبعة صامتاً. وقال المجدور وهو يشير إلى سلّم الرافعة: "طريقة مبدعة في الإعدام يا سيدي! صارت المشنقة بآلاتها التقليدية خارجة عن الموضة!".
ومسّد صاحب القبعة على شعر فوديه الرماديين المتجعّدين ثمّ قال: "الحقّ معك يا سيدي، يتقدّم العالم بأسره، ونحن نتخلّف، لأننا مثل العقارب يلدغ بعضنا بعضاً".
قال المجدور: "سمعت أنّ القصة، قصّة غرام. يقول عاملنا إنّ الشابّ وقع في حبّ بنت كلريز، فتكرّرت القصّة القديمة: يرفض أخو البنت والبقية...".
قال صاحب القبعة: "غريب! إذن كان هكذا! لكن حسب علمي ليس لكلريز بنت". ثمّ تنفّس الصعداء وقال: "كم من دماء أريقت منذ هابيل المظلوم بسبب هذه القضايا يا سيدي!".
أخرجت امرأة يدها من جيب معطفها الفرو، وقرّبتها من تحت ذراع صاحبتها ثمّ قالت: "يا إلهي! كيف حاله الآن؟ ينتاب الإنسان إحساس سيئ!".
قالت المرأة الأخرى: "ماذا لو عفوا عنه!"
قالت المرأة الأولى وهي تخرج يدها من تحت ذراع صاحبتها: "لماذا يا حبيبتي؟ ليتجوّل القتلة في الشوارع أحراراً؟!".
ـ "كان عليهم أن يشنقوا تلك الفاجرة".
ـ "بالله لا تقولي ذلك! هل يعدّ الجمال ذنباً؟".
كان القاتل الشابّ بثوبه الرمادي واقفاً بين الجنديين. انفجرت مفرقعة رُميت وسط الساحة. وعلا صوت مزكوم مبحوح عبر مكبّر الصوت للشرطة: "أيها المواطنون المخلصون المتعاونون! لا تسمحوا لحفنة من الفوضويين الإخلال بهدوء البرنامج، لو سمحتم ابتعدوا قليلاً".
كانت مصابيح قليلة للبيوت المحاذية للساحة قد بدأت تضيء هنا وهناك. لم تظلّ العصافير على حواف النوافذ. وكان شبح امرأة بشعرها المكثف المنسدل يمشي وراء ستائر البيت المطلّ على الساحة. كانت أمّ القاتل، وهي قد وصلت بصعوبة إلى خلف سلسة الرجال، تصيح: "لا تسمحوا... لا تسمحوا لهم بقتل ابني". وهرول جنديان، فأبعداها بعد أن كانت تحاول الاقتراب من القاتل. 
وكانت ذراع الرافعة المتصلة بطرفها تتحرّك في هدوء فوق رأس القاتل. كان الشابّ، وهو يفتح عينيه باستمرار ويغمضهما، ينظر إلى الأسفلت أمام قدميه، وكأنّ الأرض قد تفتح فمها بسرعة لتنقذه من الورطة. وصفر مكبّر الصوت للشرطة فارتفع بعدها صراخ امرأة يشبه عويل المحتضر لتتوجّه الأنظار كلها إلى أمّ القاتل، وهي منطرحة على الأرض كالميت، وقد ظهر بياض عينيها. وضعت المرأة اللابسة للشادر المنقوش بالأزهار، شادرها تحت إبطها، وقالت: "تعالي يا أختي. ماتت المسكينة. أن يكون الإنسان كلباً أحسن من يكون أمّاً".
كانت المرأة تلوّح بطرف شادرها على وجه أمّ القاتل، وهي تقول للرجال الذين تجمّعوا حولهما: "بالله أعطوني جرعة ماء". ومدّت طرحة أم القاتل على شعرها الأسود الممزوج بالأبيض، ثمّ رشّت على وجهها من عبوة ماء حصلت عليها.
ـ ها! ماذا؟ قتلوها؟
قالت المرأة اللابسة للشادر المنقوش بالأزهار: "اصبري قليلاً يا أماه. فكّري في آخرته، عندما يدفع الإنسان غرامة ذنوبه يتطهّر...".
نزل رجل، كانت كتفاه العريضتان واضحتين، وهو في المقعد الخلفي من السيارة فوقف أمام الجماهير وهم كانوا قد شكلوا نصف دائرة. رفع باطن يديها الاثنتين إلى الناس. ثمّ ركض جنديّ ليعطيه مكبّر الصوت.
ـ اسمحوا لي. هذا الحكم صادر من المحكمة العليا، وعلينا تنفيذه. اسمحوا بتنفيذ الحكم في هدوء تام.
بإشارة من العقيد، توجّه والد المقتول نحو القاتل في حركة بطيئة، وهو يحاول أن لا يرى سوى أمام قدميه.
أخرج رجل مرتديًا ملابس مدنية ورقة من جيبه، ثمّ وقف أمام الجمهور: "أيها المواطنون المحترمون! لو تستحق أية جريمة التخفيف في العقوبة، فإنّ القتل ـ شأنه شأن الاغتصاب ـ خارج عن إطار العفو. ويشنق القاتل في مكان ارتكاب الجريمة أمام ولي الدم ليكون عبرة ...".
لا صوت ولا حركة إلا أبخرة أنفاس تنحلّ في الهواء.


أغمض القاتل الشابّ عينيه. فكّر: "عيناي تخرجان من حدقتيهما. وجهي يزرق. أبول... لو كان لها المروءة لأن تنظر إليّ. لا أريد أن تذكرني دائماً هكذا...". 
أصابت وجهه رائحة أنفاس من لم يُفطر، فغيّر حاله. فكّ والد المقتول بيديه المرتجفتين الحبل من عنقه. فتح القاتل عينيه وحملق مستغرباً إلى الجمهور الصامت. وانحنى فجأة ليمطر بوابل قبلاته، يدي والد المقتول. ألصق الرجل رأس القاتل بكتفه. كان القاتل يبكي بصوت عال، وهو يمسح وجهه بلحية والد المقتول القصيرة الخشنة المبلّلة. ثمّ رمى بنفسه على الأرض ليحتضن رجلي الرجل. عبق رأسه برائحة الجلد المبلّل. بدت له الأرض تحت قدميه كأنّها وسادةُ ريش ناعمة. لم يبق شبح حبيبته خلف الستار، كانت واقفة بثوبها الأبيض أمام الجمهور، وعيناها نديتان مفعمتان بالشكوى.
كانت النساء يزغردن، والرجال مبتسمون يهزّون رؤوسهم. رفعه الشباب على أيديهم وهم يهتفون معاً: "نادر، نادر، نادر..." كما يرمونه إلى الأعلى. بحثت عيناه عن حبيبته بين الناس. لم تكن هناك. أراد أن يناديها، لكنّه شعر بشيء يحرق حنجرته فبدأ يسعل. رفع يديه ليدلك بهما عنقه، لكنهما تدلتا ثقيلتين عاجزتين. حطّه الشباب على الأرض.

خلف الستار، اهتزّ الشبح العريض لكتفي امرأة بشدّة، وتحرّكت نقوش النخيل الزرقاء للستار في هدوء.
كانت أفواج الناس تتفرق. كانوا يفركون أيديهم فتتحرّك أكتافهم نتيجة هذه الحركة، فتبدّد البخار المتصاعد من أنفاسهم تحت أضواء الشارع فوق رؤوسهم. كانت عيدان الثقاب تشتعل وبقع أضواء السجائر تتراقص. وغاب العجوزان صاحب قبعة الشامبو والمجدور في منعطف زقاق، وقد غطّيا وجهيهما بشال العنق. كانت سيارة الأجرة البرتقالية قد توقفت في بداية الشارع الفرعي والسائق يهتف بحثاً عن الركاب.

للكاتبة الإيرانية Behnaz Alipour
ترجمة سمية آقاجاني ويد الله ملايري


المساهمون