الراعي إلى إسرائيل: هل يردعه الفاتيكان؟

الراعي إلى إسرائيل: هل يردعه الفاتيكان؟

04 مايو 2014
قد يفتح الفاتيكان الباب لتراجع الراعي (راتب الصفدي/الأناضول)
+ الخط -
ينوي بطريرك أنطاكيا وسائر المشرق للموارنة، بشارة الراعي، التوجه إلى فلسطين المحتلة. قد يتفادى حرج النزول على سلالم الطائرة في مطار بن غوريون، فيعبر حاجزاً لقوات الاحتلال الإسرائيلي، لكن من جهة الأردن. ثم يتنقّل على طول الأراضي المحتلة وعرضها. ستؤمن له الشرطة الإسرائيلية الحماية وربما المواكبة الأمنية. سيزور القدس المحتلة، ومنها سينتقل إلى الناصرة وحيفا وقرى الجليل، حيث تتركز أكبر التجمعات السكانية للفلسطينيين المسيحيين العرب. مناسبة القرار، رغبة الراعي المشاركة في الزيارة المنتظرة لبابا الكاثوليك فرنسيس الأول إلى "الأراضي المقدسة"، المقررة في 25 و26 مايو/أيار الحالي.

حتى اللحظة، يبدو الراعي غير آبه بكل الأثمان التي يمكن أن يدفعها نتيجة إصراره على المشاركة. وبقراره ذاك، يكسر البطريرك سياسة مكرّسة في رأس الكنيسة المارونية، التي قاطعت زيارة رعاياها في القدس منذ العام 1948 (زيارة البطريريك بولس المعوشي عام 1964 كانت للقدس الشرقية التي كانت تحت السلطة الأردنية في حينها).

منذ النكبة حتى اليوم، لم يزر أي من البطاركة رعاياهم في الأراضي المحتلة تحت السلطة الإسرائيلية. اكتفوا بتعيين رؤساء أساقفة ومسؤولي أبرشية ومتابعة شؤونهم عن بُعد. أبعدوا أنفسهم عن هذه الكأس المُرّة، وأسقطوا من حولهم كل اتّهام بالتطبيع أو بالعلاقة مع سلطة الاحتلال، حتى ولو جاء ذلك "على حساب مصالح الموارنة وأحوالهم"، كما يقول بعض المتذمّرين في الكنيسة المارونية.

يعود الراعي من مدينة لورد (فرنسا) يوم الثلاثاء، ليجد أمامه في بكركي (مقرّ الكنيسة المارونية في جبل لبنان) الكثير من الأسئلة والاستفسارات عن هذه الزيارة وتبعاتها. تفاعلت هذه القضية خلال اليومين الماضيين، ووصل إلى أذن الراعي في "المهجر"، الكثير من الهمس والعديد من دعوات التراجع عن المشاركة في الزيارة. وصلت إلى البطريرك رسائل سياسية وشخصية، بحسب ما تقول مصادر كنسية  لـ"العربي الجديد"، فتلقى إشارات من الرئيس ميشال سليمان والعديد من المسؤولين اللبنانيين ورؤساء أحزاب ونواب ووزراء.

بين حزب الله والفاتيكان

أكثر هذه الرسائل حزماً ودلالة، تلك التي وصلت من حزب الله الذي أبلغ مسؤولي الكنيسة "موقفه المبدئي من قضايا مماثلة، واحتجاجه ورفضه القاطع لنيّة الراعي" القيام بالزيارة. مع العلم أنّ العلاقة بين بكركي والحزب توتّرت في الأشهر الأخيرة، تحديداً بعد صدور "وثيقة بكركي الوطنية" التي جاءت فيها تلميحات حول سلاح حزب الله وملف تحييد لبنان والابتعاد عن المشاركة في الحرب السورية.

وتشير مصادر كنسية إلى أنّ هذه الرسالة الواضحة دفعت بدوائر مقرّبة من بكركي، إلى "التواصل بشكل مباشر مع نظيراتها في الفاتيكان، للعمل على حلّ القضية وفكّ مفاصلها"، بما في ذلك وضع رأس الكنيسة الكاثوليكية في أجواء ردود الفعل على مشاركة الراعي في زيارة فلسطين، "وما قد ينتج عنها من توتير للعلاقة بين بكركي والكثير من الأطراف المحلية". من هنا، ترى هذه الدوائر المقربة من بكركي إمكانية صدور قرار فاتيكاني يطلب من الراعي البقاء في بيروت، وقطع شهيّته عن الأراضي المقدسة، أو أن يلاقي بابا الفاتيكان في الأردن التي يزورها قبل أن يحطّ في فلسطين المحتلة بيوم واحد.

"ضجّة بلا مبرّرات"

يحاول المدافعون عن الزيارة إضفاء طابع ديني ورعوي بحت على الزيارة، على الرغم من علمهم الأكيد أن الأمور لا تُقاس بهذه البساطة في ما يتعلق برجل دين صحيح، لكنه أحد أبرز اللاعبين السياسيين في لبنان.
ويسارع عدد من المدافعين عنها إلى التأكيد على "عدم مشاركة الراعي في الجولة الرسمية للبابا"، ليؤكّدوا أنه لن يضطر إلى الاحتكاك بالإسرائيليين وبدوائرهم الرسمية وغير الرسمية. يقولون إنه سيستخدم جواز سفر فاتيكانياً، وإنه لن يجتمع إلى أي من مسؤولي العدو. سيجلس في أحد الأديرة المارونية وينتقل بين الكنائس ويزور أبناءها. أحد هؤلاء المدافعين، النائب البطريركي العام، بولس صيّاح، الذي أمضى 16 عاماً في الأراضي المحتلة، بين عامي 1996 و2012 رئيسا لأساقفة حيفا والأراضي المقدسة، ثم نائبا بطريركيا في القدس وفلسطين والأردن.

لا يجد صيّاح أي مبرّر للهجوم على الراعي وعلى زيارته. ويقول لـ"العربي الجديد" إنه "لا سبب لكل هذه الضجة: رئيس الكنيسة الكاثوليكية آتٍ إلى المنطقة، فهل يعقل ألا يستقبله البطريرك الماروني؟ هل نخرج من بيتنا إذا علمنا أنّ ضيفاً قادمٌ إلينا؟" وفي إطار دفاعه عن الزيارة، يتناسى صياح الدور السياسي الذي يكرّره بطريرك الموارنة في بلد كلبنان، ويكرر أسطوانة أن "الزيارة رعوية"، ويشدّد على موقف الكنيسة من الاحتلال ومن إسرائيل "ومن اليهود". يستبعد صيّاح، وغيره من المسؤولين الكنسيّين المقرّبين من الراعي، أن يتراجع الأخير عن قراره من تلقاء نفسه. منهم مَن يقول إنه مقتنع بصوابية خياره، ومنهم مَن يضع "عناده" في سياق حبّه للاستعراض، ورغبته الدائمة بتسليط الأضواء عليه.

ضرب رمز الكنيسة

يذكر أن الراعي لا يخرق أي قانون أو دستور، فقانون العقوبات اللبناني يجرّم التعامل مع إسرائيل، لكنه لا يعتبر ما يقوم به الراعي، تعاملاً من الناحية القانونية، بل عملاً كهنوتياً أجازته المواد القانونية. إلا أنّ الخلل في هذه الزيارة يكمن في خرقه مبادئ أساسية، سياسياً وثقافياً وقومياً وأخلاقياً. يتحدث سياسيون مقرّبون من بكركي عن رمز الموقع المسيحي الأول، والضرر المعنوي الذي من الممكن أن يلحق بالكنيسة وأبنائها نتيجة قرار الراعي في حال ذهب فيه حتى النهاية. هي زيارة تسجّل الكثير من الاحتجاجات الدينية، ترجمت وستترجم من خلال مواقف سيعلنها رجال دين وعلماء مسلمون، اتصلوا بدوائر بكركي، وسيزورون الصرح الكنسي في الساعات 48 المقبلة.
يصف أحد أبناء الكنيسة المارونية قرار الراعي بأنه "يفتح أبواب جهنّم على نفسه".

المعترضون على مشاركة الراعي في زيارة الأراضي المحتلة كثُر. منهم مطارنة ومنهم أدنى رتبة من بين رجال الإكليروس. مواقفهم العلنية تبقى صامتة وهادئة على الرغم من قناعتهم المطلقة بخطأ البطريرك. في ظرف سياسي مماثل، يركض الراعي وراء هواية استقطاب "الكاميرات". على أبواب فراغ رئاسي، يترك موقعه لينفذ خطوة سجالية لم يسبقه عليها أحد من نظرائه السابقين. حتى ولو لم يتوجّه الراعي إلى فلسطين المحتلة، فهو، من خلال تسريبه نبأ رغبته بالتوجه إلى هناك أواخر الشهر الحالي، كسر أحد المحرمات بالنسبة للكنيسة المارونية في لبنان. وعن هذا الموضوع، يرى كثُر أن هذه السابقة لن تكون الأولى التي يكرّسها الراعي في مسيرته السجالية، بدليل أن الرجل حفر اسمه في خانة المدافعين عن النظام السوري منذ انطلاق الثورة السورية، وقد وصل به الحال حدّ زيارته دمشق ولقائه حكامها في عزّ الثورة، تحديداً في فبراير/شباط 2013، حيث أطلق، ولا يزال، شعارات ومواقف هي نسخة طبق الأصل عن أدبيات النظام السوري حول "المؤامرة" و"حماية الأقليات" و"مخطط القضاء على المسيحيين"...
لم يعلن الراعي نيّته زيارة فلسطين المحتلة بشكل علني بعد. اكتفت أوساطه بالإشارة إلى رغبته استقبال فرنسيس الأول، وكان ذلك كفيلاً في إشاعة هذا التوتر بين الكنيسة وباقي الأطراف المعارضة لدخول البطريرك إلى الأراضي المحتلة. لا يزال بإمكان الراعي التراجع، إلا في حال أراد إشباع رغبته الدائمة في ترك بكركي والتجوّل خارج أسوار البلد.