الدرع الصاروخية في أوروبا تواكب حرباً باردة جديدة

الدرع الصاروخية في أوروبا تواكب حرباً باردة جديدة

02 يونيو 2016

احتجاج أمام قاعدة عسكرية ببولندا ضد الدرع الصاروخية (13مايو/2016/Getty)

+ الخط -
ظهرت مبادرة نشر عناصر الدرع الصاروخية في أوروبا في العام 2002، وصادقت وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون) على المشروع في العام 2007، لكنّ الرئيس الأميركي، باراك أوباما، جمّده إلى إشعار آخر في العام 2009، في مقابل تسيير قوارب عسكرية محمّلة بالصواريخ في الأقاليم الشرقية للبحر الأبيض المتوسط، ثمّ وافق أوباما على تنشيط الدرع في مرحلة لاحقة. أنظمة الدرع الصاروخية موجودة كذلك في كاليفورنيا وألاسكا، وتهدف إلى التقاط الصواريخ الموجّهة إلى الشواطئ الأميركية في مداراتها المرتفعة، قبل الدخول في المجال الجوّي. وتشمل المخاوف الأميركية، حسب البنتاغون، تهديدات شبكة الصواريخ الإيرانية وكوريا الشمالية، أخذًا بالاعتبار التجارب التي أجرتها إيران أخيراً. وعلى الرغم من سقوط الصواريخ على بعد مئات الأمتار عن الهدف، إلا أنّها تهدّد المدن لاتّساع رقعتها، وكوريا الشمالية كذلك مستمرة بإطلاق الصواريخ، وإجراء مزيدٍ من التجارب النووية.

أولويات 
شغّل حلف الناتو، أخيراً، الدرع الصاروخية في القاعدة العسكرية الموجودة في جنوب رومانيا في منطقة ديفيسيلو ( 50 كلم من الحدود البلغارية)، كما بدأ العمل على إنشاء عناصر الدرع في ريدزيكوفو في بولندا، وسينتهي "الناتو" من إنجاز ذلك في العام 2018. ليتمكن من الدفاع عن المناطق الشرقية للقارة الأوروبية على مدار الساعة، من خلال شبكةٍ متكاملةٍ من الرادارات والقوارب الأميركية العسكرية ونظم الصواريخ المضادة المنشورة عملياً في مياه البحر الأبيض المتوسط. شغّل "الناتو" في القاعدة الرومانية القديمة 24 صاروخًا من طراز SM – 3 وراداراً من أنظمة (Aegis). ما زال المشروع في بداياته، وعلى "الناتو" رفع المستويات الفنية والتقنية لبلوغ القدرات الكامنة المطلوبة، حسب تصريحات الخبير في مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية في واشنطن، توم كاراكو.
الصواريخ المذكورة مخصّصة لالتقاط الصواريخ المحمّلة برؤوس مدمّرة بالاصطدام المباشر بسرعة هائلة، تبلغ نحو 28 ألف كيلومتر في الساعة، صواريخ الدرع غير محمّلة برؤوس متفجّرة، لاعتمادها على حدّة الاصطدام واستنفاذ الطاقة المحركة للصواريخ النووية والبالستية. وهي، كما يؤكّد مبعوث وزير الدفاع الأميركي روبرت بل للمنطقة، غير موجّهة لروسيا. على الأقل ليس في الوقت الراهن، لعدم وجود التقنيات المطلوبة لتحقيق ذلك. لكنّ روسيا مصرّة على أنّها تهدّد السلام في إقليم أوروبا الوسطى، والحدّ من الوجود العسكري والإستراتيجي الروسي في مياه البحر الأسود.

مخاوف روسيا وهواجسها
هل تهدّد الدرع الصاروخية روسيا بصورة مباشرة؟ ترى روسيا أنّ هذه الدرع ستقدّم لحلف
الناتو الأولوية لتعطيل الصواريخ الروسية، حال اندلاع صراعٍ عسكري، وإفشال عنصر المفاجأة الروسي، لكي تتمكّن الولايات المتّحدة من الردّ وتوجيه الضربة الأولى. وهدّد السفير الروسي في الدنمارك، قبل قرابة العام، بضرب القوارب العسكرية الموجودة في مياه بحر الدنمارك بصواريخ نووية، إذا حمّلت على متنها عناصر من الدرع الصاروخية. أميركا ناشطة في الإقليم ولديها رادارت متطوّرة في تركيا وهولندا، وهناك نماذج مشابهة في قاعدتها رمشتاين في ألمانيا، وفي إسبانيا لديها أربعة قوارب محمّلة بعناصر من هذه الدرع، كما يشارك الحلفاء في تحمّل كلفة عملية التسليح بنسب متفاوتة. تقوم الرادارات بالكشف عن توقيت إطلاق الصواريخ البالستية، وتحديد مدارها في الفضاء، وضربها في مداراتها الخارجية، قبل أن تدخل ثانية المجال الجوّي.
وتؤكد الولايات المتّحدة الأميركية أنّ الموقف الروسي يماثل جنون العظمة للإبقاء على التفوّق الإستراتيجي، كما أنّ روسيا أوقفت المحادثات مع "الناتو" بشأن الدرع عام 2013، وكان في وسعها الحصول على مزيد من التوضيحات بشأن عملها وأدائها. وتضيف واشنطن أنّ روسيا طالبت بإبرام اتفاقيةٍ لتحديد مدى صواريخ الدرع، كي لا تطاول الصواريخ البالستية الروسية، وهذا أمرٌ يرفضه "الناتو" جملة وتفصيلاً. روسيا تخشى من الصواريخ التي تسير بسرعة 10 كلم في الثانية الواحدة، والقادرة على تدمير الصواريخ الروسية، وتعتبر الدرع تهديدًا للأمن القومي الروسي، حسب تصريحات دميتري بيسكوف السكرتير الإعلامي للرئيس الروسي فلاديمير بوتين، لكن "الناتو" ينكر امتلاكه مثل هذه التكنولوجيا.
تحاول الولايات المتحدة الأميركية والحلف منذ سنوات إقناع روسيا بأنّ الدرع ليست موجّهة ضدّها، وأنّها في أوروبا جزءٌ من منظومة دفاع عالمية، للردّ على أيّة تهديدات إيرانية وكورية شمالية. ولمزيد من المصداقية، صرّح السكرتير العام لحلف الناتو، ينس ستولتنبرغ، أنّ الدرع لا تمتلك القدرات الفيزيائية لتهديد روسيا، وأكّد على أنّ "الجغرافيا والفيزياء لا تسمح بتدمير الصواريخ البالستية عابرة القارات، لأنّ تعداد الصواريخ المنشورة محدودٌ للغاية، عدا عن تموضعها في أماكن بعيدة إلى الجنوب، أو قريبة للغاية من الحدود الروسية". ولا تجافي تصريحات ستولتنبرغ الحقيقة، بما يتعلق بعناصر الدرع المنشورة في رومانيا، ولا يرغب "الناتو"، بل لا يقدر على استخدامها ضدّ روسيا، حسب تصريحات الخبير العسكري الروسي، كونستانتين بوغدانوف، لصحيفة روسكي دنيفنيك، كما أنّ القاعدة جزءٌ من نظام الدرع، والأجزاء الأخرى ليست بهذه البراءة حسب الرؤية العسكرية الروسية.
روسيا على قناعة بجدوى القاعدة الأخرى في بولندا، والتي ستصبح صالحةً للاستخدام خلال العام 2018. وهي قاعدة مؤهّلة لتهديد روسيا وقادرة على النيل من الصواريخ البالستية الروسية البعيدة المدى، وهذا ما تمّت مناقشته في مؤتمر موسكو الأول للأمن القومي في العام 2012. أنظمة صواريخ درع الناتو المتطوّرة، وحسب خبراء عسكريين في روسيا، قادرة على تدمير الصواريخ المنطلقة من المناطق الغربية والشمالية الغربية الروسية الموجّهة نحو أميركا الشمالية، ومن المتوقع أن يظهر هذا النمط من الصواريخ في عشرينيات القرن الحالي. ما يقلق روسيا بصورة أكبر ليست العناصر المنشورة في رومانيا، بل صواريخ الدرع المعترضة والمحمّلة على قوارب عسكرية، لقدرتها على الانتقال قبالة الشواطئ الإسكندنافية (بحر النرويج، مثلاً)، واعتراض مدارات الصواريخ الروسية الموجّهة بكثافة وتركيز نحو أميركا الشمالية.
ويرتبط الرفض الروسي لنشر صواريخ الدرع في رومانيا كذلك بمخالفة "الناتو" اتفاقية تدمير الصواريخ المتوسطة والقصيرة المدى المبرمة عام 1987. ويرى الخبراء العسكريون في موسكو أنّ المنصّات في رومانيا قابلة للاستخدام كذلك لإطلاق صواريخ مجنّحة، ما يتعارض مع الاتفاقية المذكورة، الأمر الذي تنكره أميركا. لكنّ البنية التحتية لاستخدام صواريخ الدرع المعنية باتت حقيقة على أرض الواقع.

افتتاح رسمي في بولندا
شاركت شخصيات أوروبية عديدة في حفل افتتاح مشروع الدرع في بولندا، ومن المقرّر رفع
حاجز تقني بكلفة 10 ملايين يورو في الوقت الراهن، وحاول مئات من المواطنين في بولندا التعبير عن رفضهم بناء هذا المشروع، لعدم حصولهم على تعويضاتٍ ماليةٍ، في مقابل الأراضي التي صودرت في هذا المجال، وليس لأسباب سياسيةٍ أو مبدئيةٍ، عدا عن حظر كل عمليات البناء في محيط القاعدة. ومن غير الممكن تأسيس مشاغل صغيرة، من دون الحصول على إذن خاص من المؤسسات الحكومية والأمنية، وهذا لا يصبّ في صالح الإقليم البولندي، كما لا يروق لروسيا وأنصارها في البلاد. وأصبح مؤكداً استقبال دبابات وآليات عسكرية أميركية في دول أوروبا الشرقية، بما في ذلك بلغاريا، الراغبة باستقبال رادار وعناصر أخرى من الدرع الصاروخية. وعدا عن المنصّات المحدودة في بولندا ورومانيا، تشمل الدرع شبكة رادارات متطورة في تركيا وأربعة قوارب عسكرية محمّلة بصواريخ دفاعية، متمركزة في جنوب إسبانيا، وتابعة للقاعدة المركزية في ألمانيا. ومن المقرّر أن تقدّم الولايات المتحدة الأميركية للناتو إمكانية قيادة الدرع رسمياً في لقاء القمة في وارسو في شهر يوليو/ تموز المقبل.
حاول الرئيس أوباما مطولاً تحسين العلاقات مع موسكو. لذا، أقدم على تجميد مشروع الدرع، الأمر الذي تسبّب بقلق وغضب كامن في دول أوروبا الشرقية، لأنّ موسكو ترغب بالإبقاء على عدوّ ما، لإدارة سياستها الداخلية. "الناتو" وأميركا مفضّلتان كأطراف مناوئة لأسبابٍ تاريخية، تعود إلى حقبة الحرب الباردة، وانقلاب دول المنظومة الاشتراكية وتحولّها إلى الغرب و"الناتو". والشروع ببناء عناصر الدرع إشارة سياسية مهمة كذلك لدول أوروبا الشرقية، خصوصاً لبولندا على صعيد السياسة الداخلية، حيث سيساعد رفع مستوى الأمن في البلاد في التغلّب على بعض القضايا التي تعاني منها الحكومة البولندية، مثالاً على ذلك الخسارة المتوقعة في إقليم سلوبسك حيث قاعدة الدرع، والمقدّرة بنحو ثلاثة مليارات يورو، بسبب تأميم الأراضي وتراجع حجم الاستثمارات، لأسباب أمنية وتراجع مشاريع المرافق العامّة وارتفاع مستوى البطالة.

دول البلطيق
يرى متشائمون، وفي مقدمتهم الجنرال البريطاني سير ريتشارد شيريف “Richard Shirreff” النائب السابق لقائد القوات العليا لحلف الناتو في أوروبا (2011 – 2014)،
أنّ الحلف قد يغامر بخوض حرب نووية مدمّرة مع روسيا خلال عام واحد، إذا لم يرفع قدراته الدفاعية، حسب صحيفة "ذا إندبندنت"، وهذه تصريحات جريئة للغاية. وقال الجنرال إنّ مهاجمة إستونيا ولاتفيا وليتوانيا تشكّل خطرًا حقيقيًا، وعلى الغرب أن يتّخذ الخطوات الضرورية اللازمة للحيلولة دون وقوع هذه الكارثة. وصدر للجنرال مؤلفه (2017: حرب مع روسيا)، يؤكّد فيه إمكانية اندلاع هذه الحرب المدمّرة، ما يعود، حسب رأيه، إلى الرؤية النووية الروسية وقدراتها الدفاعية المتطورة، وعلى "الناتو" أن يحكم على أفعال بوتين وليس كلماته، وقد اجتاح أراضي جورجيا وضمّ شبه جزيرة القرم، وهناك إمكانية حقيقية لاجتياحه أراضي دول البلطيق. ويؤكد الجنرال إنّ روسيا على أهبة الاستعداد لاجتياح هذه الدول، إذا شعرت بضعف حلف الناتو، لأنّ الفقرة الخامسة من اتفاقية تأسيس الحلف تلزم الأعضاء بالدفاع عن أيّ دولة عضو، حال تعرّضها لهجوم واعتداء خارجيين، ويمكن لبوتين تبرير أعماله العسكرية لاعتباراتٍ دفاعيةٍ محضةٍ، ولحماية الأقليات الروسية التي تعيش في دول البلطيق، ويأخذ الجنرال بالاعتبار السرعة الخاطفة التي استولت فيها روسيا على القرم.
وصرح ينس ستولتنبرغ السكرتير العام لحلف الناتو أنّ تعداد قوات الفرقة المشتركة في البلطيق ستحدّد خلال قمّة الناتو المقبلة في وارسو، وأوضح أنّ الحلف سيعتمد توجهين في علاقاته المشتركة مع روسيا، الحوار الثنائي ورفع مستوى (ومقدرات) الدفاع للحلف في جناحه الشرقي، وأنّ الخبراء العسكريين تقدّموا بتوصيات بنشر فرق عسكرية مشتركة، ما يشير كذلك إلى وحدة الأهداف والتوجهات الدفاعية للناتو.

محادثات مع روسيا
صرّح "الناتو" عن وجود توجّهات لإجراء محادثات رسمية مع روسيا، قبل مؤتمر قمته في وارسو في شهر يوليو/ تموز المقبل الذي سيشهد أكبر عملية تدعيم لقواته، منذ نهاية الحرب الباردة، حسب وكالة فرانس برس. ويذكر أنّ مجلس الناتو – روسيا قد اجتمع في إبريل/ نيسان الماضي، بعد انقطاع امتدّ منذ يونيو/ حزيران 2014، وانتهى الاجتماع بخلاف واضح في وجهات النظر، خصوصاً بشأن الملف الأوكراني، على الرغم من أنّ ستولتنبرع اعتبر الخطوة مفيدةً للغاية.
ونزولاً عند رغبة الدول الأعضاء في الحلف (28 دولة)، أوعز ستولتنبرغ لوزراء خارجية دول "الناتو" الأعضاء للتوصّل إلى اتفاقٍ بشأن جدوى عقد اجتماع آخر لمجلس الناتو – روسيا المشترك. واتفق الوزراء على الحوار مع روسيا، ورفع قدرات "الناتو" الدفاعية، وأصرّوا على ضرورة الدعوة إلى عقد مؤتمر قمة الناتو في يوليو/ تموز المقبل، حيث ستتم مناقشة الشروط والإجراءات العملية للحلف، على مستوى وزراء الخارجية في بروكسل ورؤساء الوزارات ونوابهم في قمة وارسو المقبلة. ومجلس الناتو – روسيا هو القناة الوحيدة للحوار التي أبقى عليها الحلف، بعد ضمّ روسيا للقرم.
59F18F76-C34B-48FB-9E3D-894018597D69
خيري حمدان

كاتب وصحفي فلسطيني يقيم في صوفيا. يكتب بالعربية والبلغارية. صدرت له روايات ودواوين شعرية باللغتين، وحاز جائزة أوروبية في المسرح