الحكومة التركية الجديدة: ميراث وتحديات مستقبلية

الحكومة التركية الجديدة: ميراث وتحديات مستقبلية

11 اغسطس 2014
أردوغان في مواجهة تحديات كبيرة (آدم ألتان/فرانس برس/Getty)
+ الخط -

تبرز أمام الرئيس التركي الجديد، رجب طيب أردوغان، الذي شكّل انتصاره في الانتخابات الرئاسية، نقطة فارقة في تاريخ السياسة التركية، تحديات عديدة، من أهمها، تشكيل حكومة جديدة، قادرة على مواجهة الصعوبات في مختلف المستويات، سواء على المستوى الداخلي، والاقتصادي، أو على صعيد السياسة الخارجية.

على المستوى الداخلي، ومنذ الانتقال إلى الديمقراطية التعددية في عام 1950، عملت تركيا تدريجياً لتحسين مكانتها الديمقراطية، لكن مسيرة الديمقراطية عانت كثيراً بسبب الانقلابات العسكرية المتعددة، حتى مجيء حزب "العدالة والتنمية"، بقيادة أردوغان بعد انتصاره في الانتخابات البرلمانية عام 2002.

ومنذ ذلك الوقت، استأنفت عملية التحول الديمقراطي، وتمكنت تركيا من إنشاء تقاليد ديمقراطية في العديد من المؤسسات، التي أصبحت ممثلاً حقيقياً للشعب التركي، بما في ذلك الأحزاب السياسية، وإنشاء برلمان حقيقي وإدارات محلية ذات أداء عال.

أما إنجاز "العدالة والتنمية" الأكثر إثارة للإعجاب في هذا الصدد، فقد كان كبح النفوذ السياسي للقوات المسلحة التركية، وتطبيع العلاقة المدنية ــ العسكرية، عبر مجموعة من العمليات القضائية ضد العسكر، كان أبرزها عملية "المطرقة والأرغنكون".

كما كانت مسيرة تسوية القضية الكردية، بنفس القدر من الأهمية، إذ استطاعت الحكومة كسر "التابو" الكبير، الذي كان يحرّم أي حوار مع قيادات حزب "العمال" الكردستاني، وبدأت المفاوضات غير المباشرة عبر الاستخبارات، مع زعيم "العمال"، عبد الله أوجلان، في سجنه في جزيرة أمرالي التركية.

كما أقرّت الحكومة، في الفترة الأخيرة، حزمة من القوانين، التي تحمي المسؤولين الذين يقومون بالتفاوض المباشر، وتضمن عودة مقاتلي "العمال"، ليتم دمجهم في الحياة السياسية. كما أعلن نائب رئيس الوزراء، بشير أتلاي، في نهاية يوليو/تموز الماضي، عن تجهيز خارطة طريق نحو الحلّ النهائي للقضية الكردية.

وفي سياق متّصل، تحتاج مؤسسات عدة، الى ديمقراطية ليبرالية حقيقية، من أجل منع توغّل السلطة التنفيذية فيها، وإن كانت منتخبة، فيُصبح القضاء الحر المستقل، وتُمسي وسائل الإعلام أكثر حرية وتعددية، ولا يعود يتعرّض المجتمع المدني إلى التهديد. وهو ما سيُشكّل تحدياً كبيراً في وجه الحكومة الجديدة، بعد الاتهامات الشديدة التي تلقّتها الحكومة السابقة، بمحاولة السيطرة على السلطة القضائية.

وحسب بعض المحللين، فإن المهمة الرئيسية لحكومة ما بعد أردوغان، هي إعادة التوازن بين المؤسسات التمثيلية والمؤسسات الجبرية، كالقضاء، وفسح مجال أكبر، لظهور وعي أكثر ليبرالية لدور المعارضة.

الاقتصاد

شكّلت إنجازات حكومة أردوغان، الاقتصادية، الحامل الرئيسي للشعبية العالية، التي يتمتع بها الآن، إذ ارتفع مستوى دخل الفرد من 2500 دولار إلى 10 آلاف دولار، في فترة حكمه. وتحوّلت تركيا من المرتبة 111 عالمياً، لتصبح عضواً في منظمة الدول العشرين الكبار، كونها تُشغل الآن المرتبة 16 عالمياً، على مستوى الاقتصاد.

وارتفعت قيمة الصادرات التركية من 25.5 مليار دولار، إلى 153 مليار دولار عام 2013، وتم خفض نسبة الفائدة من 63 في المائة إلى 9 في المائة، وخفض معدل التضخم من 30 في المائة إلى ما بين 8 و9 في المائة، وتحولت تركيا إلى دولة دائنة لصندوق النقد الدولي بخمسة مليارات دولار للمرة الأولى، بعد سداد الديون المتراكمة، منذ أن بدأت الجمهورية بالاستدانة منذ 53 عاماً.

وتحققت تلك الإنجازات، في الفترة التي كانت فيها الاقتصادات الكبيرة والقوية تعاني من ركود، مما أدى إلى تدفق رؤوس الأموال، نحو الاقتصادات الصاعدة والتي كانت تركيا أحدها.

لكن هذه الأيام انتهت، فبسبب اعتماد تركيا على القروض القليلة الفائدة، بدأ الاقتصاد التركي يعاني، الأمر الذي أدّى إلى ظهور خلافات في الحكومة بين كل من أردوغان، ونائبه للشؤون الاقتصادية، علي باباجان، الذي ساند قرارات البنك المركزي برفع نسبة الفائدة، للحفاظ على قيمة الليرة التركية، راضياً بنسبة نمو منخفضة بدل المخاطرة بالدخول في أزمة اقتصادية، بينما فضّل أردوغان نسبة فائدة منخفضة لرفع معدّل النمو، وخفض نسبة التضخم، من دون النظر إلى الخطورة التي تحملها تلك القرارات.

وبكل الأحوال، فقد بدأ الاقتصاد التركي يعاني انخفاضاً في معدل النمو، وبينما كانت نسبة النمو بين أعوام 2002 و2011 تعادل 5.5 في المائة، انخفضت في السنتين الأخيرتين إلى 3 في المائة، ومن المتوقع أن تحقق تحسناً ضعيفاً في العام 2014.

ولتجنّب سلسلة طويلة من النمو المنخفض، واضطراب دخل الطبقة المتوسطة، ينبغي على الحكومة التركية إجراء إصلاحات واسعة، تمنح المصرف المركزي التركي، صلاحيات أوسع، وتُبعده عن الضغوطات السياسية، إضافة إلى إصلاح سوق العمل وزيادة نسبة النساء في القوة العاملة، وإعادة تصميم نظام تعليم وطني، أكثر انسجاماً مع متطلبات اقتصاد العولمة، لجذب المزيد من الاستثمارات الأجنبية.

السياسة الخارجية

سترث الحكومة التركية الجديدة أيضاً، ملفات صعبة ومعقّدة على صعيد السياسة الخارجية، فالرؤية الأولية لحزب "العدالة والتنمية"، كانت تقضي بالتوجه جنوباً وشرقاً، عبر تطبيع العلاقات مع جيرانها العرب، بتمهيد نفسها كقوة إقليمية مهتمة في تعزيز السلام والرخاء، من خلال التعاون الاقتصادي، الأمر الذي سمح لأنقرة باكتساب شعبية واسعة في المنطقة.

لكن صنّاع السياسة التركية، أساؤوا تفسير مدى تنامي نفوذ قوتهم الناعمة، فأُصيبوا بثقة مفرطة، بالقدرة على التدخّل في منطقة مليئة بالعِقد لإعادة تشكيلها وفق مصالحهم.

وقد اعتمدت تركيا مواقف حازمة للغاية، تجاه الحكومات المجاورة التي فشلت في تبني موجة الديمقراطية التي رافقت الربيع العربي، لا سيما في مصر وسورية، معتقدة أنها قادرة على جلب المزيد من المصالح من خلال المواجهة، عبر الدعم المباشر للأجنحة المدنية والعسكرية للمعارضة السورية، و"الإخوان المسلمين"، فأضحت أنقرة، ومن دون تحضير كافٍ، طرفاً في الصراعات التي تجتاح الشرق الأوسط.

وبالرغم من أن القيادة التركية دافعت عن موقفها، مؤكدة وقوفها إلى جانب قيمها في الديمقراطية وحقوق الإنسان، لكنّ ذلك كان بمثابة خروج جذريّ عن المبادئ الراسخة للسياسة الخارجية التركية، التي تميل إلى إعطاء الأولوية للحذر وعدم التدخل والمواءمة مع الموقف الغربي.

فتحولت تركيا نتيجة هذا التحول من "سياسة صفر مشاكل مع الجوار"، إلى سياسة "صفر جوار مع مشاكل"، فلم تعد العلاقات متوترة مع النظام السوري والعراق وإسرائيل وليبيا ومصر فحسب، ولكن أيضاً مع المملكة العربية السعودية والإمارات.

وبحسب مراقبين، فإن تركيا تفتقد الآن حتى التوازن المؤسسي في صنع السياسة الخارجية، بين وزارة الخارجية التركية، ومكتب رئيس الوزراء.

وبات على تركيا تصحيح الوضع الحالي، لاستعادة نفوذ أكبر في الشرق الأوسط، والبحث عن حلفاء جدد، في ظلّ الفوضى التي تجتاح سورية والعراق، وبالفعل كان هناك خطوات عدة، قد اتُخذت لإعادة تطبيع العلاقات مع إسرائيل، لكن العدوان الإسرائيلي الأخير على غزة، أفسدها.

ومن بين التحديات الجدّية التي ستواجهها الحكومة الجديدة، ازدياد نفوذ تنظيم "القاعدة"، في سورية والعراق، بما يشكله من تهديد كبير، يجب التعامل معه بحذر.

وتبدو تركيا حتى الآن مرتبكة إزاء التعامل مع تنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش)، الذي يحاول التمدّد في اتجاه المناطق الكردية، في كل من سورية والعراق، مقترباً من الحدود التركية، الأمر الذي كان واضحاً في رفض وزير الخارجية التركي، أحمد داوود أوغلو، في مقابلة على قناة "إن تي في" الإخبارية التركية، في وقت سابق من الأسبوع الماضي، الإشارة إلى التنظيم "على أنه مجموعة إرهابية، بل عرّفه على أنّه "منظمة راديكالية ذات بنية إرهابية".

وتؤثر كثير من العوامل على الموقف التركي تجاه "داعش"، وإن كانت قضية المحتجَزين الأتراك لدى التنظيم على رأس القائمة.

ومن بين أهم أسباب الموقف التركي السلبي تجاه "داعش"، بحسب مراقبين، أن الأخير وإن كان عدواً محتملاً وخاملاً حتى الآن، غير أنه يقوم بشكل أساسي في العراق، بمحاربة أعداء أنقرة الممثلين في حكومة رئيس الوزراء المنتهية ولايته، نوري المالكي، حليفة الرئيس السوري، بشار الأسد، وإيران.

وعندما توجّه التنظيم نحو إقليم كردستان العراق، كانت الضربة الأميركية للتنظيم، بعد التشاور مع أنقرة فقط لوقف تقدّم "داعش" في أراضي الإقليم، مع الحفاظ على الوضع الحالي الذي يتورط فيه "العدو الإرهابي الأول بالنسبة إلى أنقرة"، حزب "العمال" الكردستاني، وجناحه السوري حزب "الاتحاد الديمقراطي"، بالقتال ضد "داعش"، مما يحقق مصلحة تركيا باستنزاف أعدائها الحاليين والمحتملين، ويسهل عملية التسوية مع "العمال"، لكن هذا لا يعني بأن "داعش" لن يكون أحد أهم التحديات.

وفيما يخص الانضمام للاتحاد الأوروبي، فقد أجرت حكومة أردوغان، العديد من الإصلاحات للتقرب من الاتحاد في الكثير من المستويات.

وأعلنت الحكومة التركية، العام الحالي، عام الاتحاد الأوروبي، للدفع بالمفاوضات والإصلاحات قدماً، واتخذت مواقف كسرت فيها الكثير من المسلّمات، فيما يخصّ أهم القضايا الخلافية، كاعتذار أردوغان، لأحفاد الأرمن، عن المجزرة التي ارتكبت بحقهم في عام 1915، أثناء الحرب العالمية الأولى، ومحاولة دفع المفاوضات في جزيرة قبرص بين الأتراك واليونانيين لحلّ الأمر وتوحيد شطري الجزيرة، الأمر الذي كان له وقع إيجابي في الاتحاد الأوروبي.

ويبدو أن أجندة الحكومة الجديدة مزدحمة، إلا أن الأمر ليس بهذه البساطة، فلو حقق أردوغان أحلامه، بتغيير النظام السياسي نحو نظام رئاسي أو نصف رئاسي، سيكون من الصعب توقع تغيرات كبيرة في الأداء على المستوي الخارجي أو الاقتصادي، لكن سيكون هناك الكثير من الأمل باستمرار الإصلاحات في الداخل التركي وبالأخص تسوية القضية الكردية.

المساهمون