الحكومات البرلمانية في الأردن.. متى؟

الحكومات البرلمانية في الأردن.. متى؟

22 نوفمبر 2014

العاهل الأردني يلقي خطاب العرش في افتتاح الدورة البرلمانية(نوفمبر/2014/أ.ف.ب)

+ الخط -
قبل 58 عاماً، أي في 1956، تشكلت في الأردن أول حكومة حزبية، برئاسة سليمان النابلسي، بوصفه زعيما للحزب الاشتراكي آنذاك، شاركت فيها شخصيات برلمانية من حزبي البعث والشيوعي. لم تدم التجربة طويلا، أجهضت بعد أشهر قليلة من حملها البكر. ثم لم تعرف الأردن حكومات حزبية أخرى، فيما تشكلت حكومات بمشاركة نواب في سنوات مختلفة.

أصبحت تجربة حكومة النابلسي الحزبية عنواناً لسياسيين ومشتغلين في العمل العام، ونموذجاً يطالبون به، ويمنون النفس بتكراره، بيد أن ذاك لم يحصل، على الرغم من مرور سنوات طويلة على التجربة، ومرور الأردن بـ"ربيع ديمقراطي" عام 1989 في أعقاب ما عرفت بـ"هبة نيسان" التي تم إثرها إلغاء الأحكام العرفية، والتأطير للعمل الحزبي المقونن، وإطلاق جزء من الحريات العامة في البلاد، وإلغاء قانون مكافحة الشيوعية الذي كان معمولاً به، وفتح حوارات لإصدار قانون أحزاب. لكن، لم تصل التجربة الأردنية إلى حد إحياء فكرة الحكومات الحزبية، واقتصرت، في بعض جوانبها، على إدخال تنظيمات سياسية وحزبية في الحكومة، كما حصل عام 1991، عندما شاركت جماعة الإخوان المسلمين بحكومة مضر بدران المعدلة بـخمس حقائب وزارية، أبرزها التعليم والصحة، وهما ذات الطابع الخدمي.

بين 1956، تاريخ أول وآخر حكومة حزبية عابرة، وتاريخ 1989، "هبة نيسان"، عانى الأردن من تقييد للحريات العامة، وأحكام عرفية قاسية في بعض مراحلها، وناعمة في مراحل أخرى، وتضييق حد المنع للصحافة، ومطاردة الأحزاب واعتقال المنتسبين إليها.

بين التاريخين، شُكلت حكومات كثيرة، ولكن، بالآليات المعهودة (تكليف ملكي لشخصيات تقليدية مقربة، ووزراء من العلبة ذاتها) بعيداً عن إشراك الأحزاب السياسية التي بات أعضاؤها في المعتقلات، أو مطاردين من أجهزة الأمن. وفتحت "هبة نيسان" طاقة انفراج للقوى السياسية للنهوض والتقدم، بيد أن حجم ما فتح كان محدوداً، واستطاع رجالات الدولة العميقة (أمنيون، بيروقراطيون، راديكاليون وغيرهم) والذين استفادوا من حالة النكوص الديمقراطي، عبر السنين، إجهاض أية تحركات لتقوية عود العمل الحزبي وتطوير أدائه، فباتت الأحزاب، لاحقاً، ومع تعمق التجربة، أشبه بديكورات سياسية باستثناء (الإخوان المسلمون).

لم تستطع "الهبة" إعادة إحياء فكرة الحكومات الحزبية، فاستبدل مفهوم الحكومات الحزبية بفكرة حكومات برلمانية، بمشاركة نواب، حزبيين أو غيرهم، وهذا تجلى عندما أشرك مضر بدران خمسة من "الإخوان المسلمين" في حكومته المعدلة عام 1991.


حكومة طاهر المصري وما بعدها

وأخذت فكرة الحكومة البرلمانية شكلاً أوضح، إبان تكليف طاهر المصري بتشكيل حكومة جديدة، في أعقاب استقالة حكومة بدران. ووجه الاختلاف أن المصري عند تكليفه كان نائبا في مجلس النواب الأردني الحادي عشر، وأشرك في حكومته 11 نائباً من أصل 25، كامل أعضاء فريقه الوزاري.

اشترك في حكومة المصري من النواب، بالاضافة إليه، عبد الله النسور، عبد الكريم الكباريتي، سعد هايل السرور، عبد الكريم الدغمي، محمد فارس الطراونة، سليم الزعبي، عوني البشير، سمير قعوار، جمال حديثة الخريشا، عبد السلام فريحات. ولهذا، اعتبر مؤرخون وساسة أن حكومته تلك أول حكومة برلمانية بعد 1956، باعتبار أن الرجل جاء من داخل المؤسسة التشريعية، وأشرك في حكومته عدداً واسعاً من النواب.

استمر ديدن إشراك النواب في الحكومات الأردنية ثماني سنوات، فبعد بدران والمصري، أشرك زيد بني شاكر وعبد السلام المجالي وعبد الكريم الكباريتي نواباً في حكوماتهم، إلى أن توقف هذا النهج في 1997، في عهد الملك الراحل الحسين بن طلال، واستمر الابتعاد، مذ ذاك التاريخ، عن فكرة "توزير النواب".

ويقول وزير التنمية السياسية الأسبق وعضو مجلس الأعيان الأردني، موسى المعايطة، إن هناك سوء فهم لمقولة الحكومة البرلمانية، فهي لا تعني، بالضرورة، أن يكون النائب وزيراً. وقدم تعريفا للحكومة البرلمانية، من وجهة نظره، وهي أن تشكل هذه الحكومة أغلبية سياسية في البرلمان، سواء كانت حزباً أو كتلة برلمانية، ويكون رئيس الوزراء منها، وتطبق برامجها، وتقدم حلولاً للقضايا، وتكون مسؤولة، وتتحمل كل الأمور المترتبة على ذلك، ويوضح أن التصور للحكومة البرلمانية ليس سهلاً أن يتحقق، لعدم وجود أحزاب ذات برامج واضحة.

ويقول أستاذ الفقه الدستوري في الجامعة الأردنية، ليث نصراوين، إن تعريف الحكومة البرلمانية يتضمن ثلاثة عناصر مجتمعة، أولها "وجود برلمان منتخب انتخاباً حراً ونزيهاً يمثل أطياف المجتمع كافة، وثانيها أن يفوز حزب سياسي بالأغلبية المطلقة لأعضاء مجلس النواب، وبالتالي تشكيل حكومة بمفرده، أو أن يشترك مع أحزاب سياسية أخرى، لتشكيل حكومة ائتلاف، في حال عدم فوزه بأغلبية مقاعد مجلس النواب، وثالثها أن يشكل الحزب الخاسر في الانتخابات حكومة موازية للحكومة البرلمانية، تسمى حكومة الظل، تسعى إلى مراقبة أداء الحكومة البرلمانية ومعارضتها، بهدف الانقضاض عليها، والوصول إلى الحكم، فيتحقق بذلك التداول السلمي للسطة بين الأحزاب السياسية"، ويخلص ليقول إن الأردن لم يشهد أي تشكيل لحكومة برلمانية بالمعنى الدستوري الكامل.


تعديلات دستورية

في فورة الربيع العربي، أقدم الاردن على تعديلات دستورية، طالما نادت بها قوى اجتماعية وسياسية، طالت أكثر من ثلث مواد الدستور، لكنها لم تمس صلاحيات الملك في تكليف من يريد بتشكيل الحكومة.

ولأن قوى شعبية وحزبية وحركات مناطقية وقوة مجتمعية كانت تطالب بإصلاحات وتعديلات حقيقية، تمس بعضها صلاحيات الملك، أفسح العاهل الأردني، عبد الله الثاني، للبرلمان الأردني السابع عشر (الحالي)، والذي انتخب في عز "ربيع العرب" مجالاً لترشيح اسم رئيس الحكومة. واعتبر حكوميون التوجه الملكي نقلة في آلية تشكيل الحكومات الأردنية، وهذا ما عبر عنه رئيس الوزراء الأسبق، معروف البخيت، والذي اعتبر، في أكثر من مطرح، أن التوجه الملكي "نقلة إصلاحية في الاتجاه الصحيح".

أخذت قوى مجتمعية على التوجيه الملكي بمشاورة النواب في اسم رئيس الحكومة أنه لم يلحق به تعديلات دستورية، تنص صراحة على وجوب ترشيح البرلمان اسم رئيس الوزراء المفضل لديهم، وبقيت صلاحية الملك مطلقةً في تسمية رئيس الوزراء. واعتبر ساسة وحزبيون، في مقدمتهم جبهة العمل الإسلامي، أن التوجيه الملكي منقوص، لأنه لم ترافقه تعديلات دستورية، تمنح بموجبها صلاحية لمجلس النواب، بتسمية الرئيس المقبل، كنص صريح وواضح في الدستور، فدعت تلك الأحزاب لربط ذلك بتعديل دستوري ملزم.


مشاورة البرلمان

في المقابل، رأت مكونات أردنية، منها أحزاب ونقابات وساسة، ومنظمات مجتمع مدني أن التوجيه الملكي بمنح البرلمان حق تسمية الرئيس جاء في عهد مجلس نيابي فقير حزبياً، وقاطعته مكونات سياسية فاعلة، أبرزها جماعة الإخوان المسلمين، وذراعها السياسي، جبهة العمل الاسلامي، وأحزاب قومية ويسارية مختلفة. ورأت أن النظام السياسي الأردني لا يريد الذهاب إلى إصلاحات حقيقية كاملة، أبرزها تعديل قانون الانتخاب، بما يسمح للأحزاب والقوى السياسية الوصول إلى قبة التشريع، وأن النظام السياسي يصر دوماً على تصوير الإصلاحات التي يتوجب القيام بها بأنها "منة"، وليست حقاً.

وقفة احتجاجية أمام البرلمان الأردني (11مارس/2014/الأناضول)

ويعتقد الوزير الأسبق والقانوني، محمد الحموري، أن أي توجيه بحاجة لتأطير دستوري، ويقول إن "النصوص القانونية والدستورية القائمة في الأردن تحتاج إلى تعديلات وإضافات، من أجل توفير البيئة والشروط اللازمة لقيام هذا النوع من الحكومات".

التوجيه الملكي بمشاورة البرلمان، والخروج باسم رئيس الحكومة المفضل لديهم، أوكل به رئيس الديوان الملكي الأردني، فايز الطراونة، الذي دخل في "معمعة" مشاورات مع كتل نيابية مختلفة، للوصول إلى اسم الرئيس المفضل لها لتشكيل الحكومة، وانتهت مشاوراته بخلاصة سلمها للملك، تم بموجبها تكليف رئيس الحكومة، عبد الله النسور، بتشكيل الحكومة.

فوراً، "سّوق" النظام الأردني حكومة عبد الله النسور، خارجياً، باعتبارها حكومة برلمانية، وأنها جاءت نتيجة مشاورات مع المجلس النيابي، وهذا ما يوضح ما قاله العاهل الأردني لمجلس النواب في خطبة العرش "الحكومة باقية ما استمرت حاصلة على ثقة النواب"، فيما لا تعتبر قوى مجتمعية ونواب حاليون حكومة النسور "برلمانية"، ويرون أن فكرة الحكومة البرلمانية لا تنطبق عليها، على الرغم مما قيل عن المشاورات التي سبقت تشكيلها.

ويرى أصحاب هذا المعتقد، أن مجلس النواب الحالي خالٍ من الأحزاب، وكتله هلامية، لا تقف على أرضية صلبة، فضلا عن عدم وجود حواضن فكرية لها يمكن الاعتماد عليها، والانطلاق من خلالها، فيخلصون إلى أن المجلس غير قادر على تسمية رئيس حكومة، باعتبار أن سواد أعضائه محافظون محسوبون على الحكومات أصلا، وينهلون من وعاء فكري واحد.

ويعبر عن هذه القناعة، بوضوح، الأمين العام للحزب الوطني الدستوري، أحمد الشناق، في قوله "لا يمكن تشكيل حكومة برلمانية من دون وجود كتل صلبة من داخل البرلمان، تعمل على متابعة الشأن العام، واتخاذ القرارات والحلول المناسبة للمجتمع الأردني". ويضيف "نريد حكومات برلمانية حزبية حقيقية، تعمل على استقرارها واستمرارها فترات طويلة، مكونة من شخصيات سياسية وطنية، تخلص الوطن من السلبيات وحالة التردي التي وصل إليها". ويقترح الشناق إصلاح النظام البرلماني، ويرى أن تحقيق ذلك يتطلب اعتماد قوائم حزبية، وتدرج تبعاً للواقع السياسي والاجتماعي والاقتصادي والحزبي في البلاد.

وفي السياق عينه، تذهب الأمين الأول لحزب الشعب الديمقراطي الأردني (حشد)، عبلة أبو علبة، لتقول بأهمية "مشاركة الأحزاب في الحياة العامة، ومن ثم الوصول إلى حكومات برلمانية ديمقراطية (...). للبرلمانات الحقيقية دور في صنع السياسات القوية التي تعمل على حماية الوطن والمواطن من الانتكاسات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية".

ويرى وزير الداخلية الأردني الأسبق، سمير الحباشنة، أن من شروط الإصلاح إجراء انتخابات شفافة وحرة ونزيهة، تتنافس الأحزاب فيها على أساس برامجها، وتشكيل حكومة تمثل الأغلبية البرلمانية بوزراء من داخل البرلمان، أو من خارجه يمثلون فكر الأغلبية البرلمانية (....) وتوجهاتها. الوضع حالياً يقوم على قانون انتخاب غير متفق عليه، ويعطي الأحزاب حصة بسيطة من تكوينه، وبقية النواب ينتخبون على أسس محلية في إطار الدائرة، نواب أصحاب طبيعة خدماتية، وإجراء انتخابات في ظل مقاطعة من أحزاب وقوى معارضة، ما يضعف التمثيل السياسي داخل البرلمان".

سليمان النابلسي

وقد دافع رئيس الوزراء الأردني، عبد الله النسور، عن تجربة حكومته، لكنه لا يخلص للقول إنها برلمانية أو غير برلمانية، يقول: "جميع الوزراء في الحكومات الديموقراطية الأخرى، كالولايات المتحدة، منتخبون من البرلمان (...). الأنظمة في العالم مختلفة، ولا يوجد نظام يشبه الآخر، الحكومة البريطانية نيابية برلمانية، وحتى رئيس الوزراء (...). هل المرحلة ستؤدي إلى حكومة برلمانية، أم أن النواب سينتخبون رئيساً للوزراء، أم تبقى الأمور كما عليه إلى أن يتم انتخاب مجلس نواب جديد؟ الهدف البعيد هو أن يختار البرلمان رئيس الوزراء والبرلمان يكون شريكاً في الحكومة، وجلالة الملك حريص على الوصول إلى الحكومات البرلمانية (....) لا يوجد في العالم نظام يشبه الآخر، ولكل بلد ظروفه الخاصة به، ونحن كذلك. هل نسعى إلى حكومة برلمانية، يقرها مجلس النواب، أم نريد حكومة يختارها مجلس النواب، أم يختار مجلس النواب رئيسها أم يختار وزراءها مجلس النواب؟ (...). كل الاحتمالات واردة، وكل الطرق موجودة".

خلاصة القول، مر الربيع العربي من الأردن، وأحضر معه تعديلات دستورية اعتبرتها أحزاب سياسية منقوصة، وحضر في المشهد مجلس نيابي، قاطعته أحزاب فاعلة، وحكومة جاءت نتيجة مشاورات مع مجلس نواب مقاطع حزبياً، وعاد مجدداً الجدل حول توزير النواب، والقدرة على الوصول إلى مفهوم الحكومة الحزبية، أو البرلمانية على أقل تقدير، وإصلاحات شاملة تمنح الأحزاب والبرلمان مساحة في التغيير والمشاركة في القرار.

27F02F21-AD59-48A1-AD97-57A23C585A0A
جهاد منسي

صحفي أردني، محلل سياسي، تتركز كتاباته على الجوانب السياسية والحزبية والبرلمانية، والحريات العامة وحقوق الإنسان، والمراة والدفاع عن الدولة المدنية.