الجزائر: في صناعة العدو والصنم

21 ابريل 2020
تم الحجر على من انتقد خيارات بوتفليقة (بلال بنسالم/Getty)
+ الخط -
لعقود، شغلت الأنظمة العربية، وخاصة الثورية منها، شعوبها بمحاربة إسرائيل والإمبريالية، وكانت تقمع كل صوت رافض للرواية الرسمية وداعٍ للإصلاح الداخلي، بحجة أنها منشغلة بمحاربة العدو، على الرغم من أن الكثير منها لم يطلق رصاصة واحدة. وعندما انكشف غبار المعركة، كانت الأنظمة قد فعلت ببلدانها أسوأ بكثير مما يمكن أن يفعله العدو بها. لم تكن الجزائر من بين تلك الدول، وتحديداً في موضوع إسرائيل، لكن السلطة حاولت، في مختلف الفترات والمحطات السياسية التي مرت بها البلاد، أن تثبت في مخيلة الرأي العام عدواً تقنع الجزائريين بوجوده واستهدافه للبلد. ولذلك ظل الخطاب الرسمي حتى الزمن الراهن متخماً بالحديث دائماً عن "العمالة للأجنبي" و"الأيادي الأجنبية"، حتى وإن كان الأمر لا يُنكر برمته، كتحصيل حاصل لتنافس دولي مستمر على المصالح والنفوذ، ولوجود دول حريصة على تعطيل التنمية في الجزائر. لكن الوقائع دائماً ما تثبت أن السلطة وسياساتها الخاطئة والمنغلقة والرافضة لأي تقييم أو تقويم، كانت أكثر إيذاءً وتعطيلاً لتطور البلاد من أي معوق خارجي آخر.

في عهد الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة سَوَّدت السلطة والحكومة والأحزاب والصحافة المطيعة صفحة كل من خرج عن النص الرسمي أو انتقد بوتفليقة واعترض على خياراته، وحَجرت عليه سياسياً وإعلامياً، وخلعت عنه كل حق، وألصقت به تهمة العمالة للخارج. وعندما انجلى غبار عقدين من الخديعة والبهتان، كانت السلطة قد فعلت بالدولة والبلد ما لا يمكن أن يفعله بها ألد عدو، وظهر أن "الأيادي الأجنبية" لم تكن عدواً بل صديقاً وظهراً للسلطة نفسها، وسنداً لرجال الدولة وموجهاً لهم، وصانعاً في بعض الأحيان للسياسات والخيارات.

ليست صدفة أن يكون هناك تزامن دائم بين "صناعة العدو" و"صناعة الصنم". كلاهما إهانة للعقل والإنسان الجزائري. "العدو" كان عاملاً للانكفاء على الذات، و"الصنم" ادعاء عصمة سياسية على طريقة "المعممين في أنظمة الملالي"، وهذا قاد الجزائر دائماً إلى الخيبة والإخفاقات والحكم الفردي، وقد يقودها حاضراً إلى ديمقراطية مزيفة أخرى، أبرز مظاهرها طائفة من السياسيين المتملقين، وصحافة "السماء صافية والعصافير تزقزق".

البلد في أزمة شاملة نعم، وهي نتاج الزيف الديمقراطي والانفرادية في صناعة الخيارات. ومثلما يتطلب الخروج منها التعاضد والتعاون وإسناد كل جهد رسمي ومبادرة سياسية تنحو إلى الإصلاح من جهة، فإنها تتطلب، من جهة ثانية، فتح آفاق واسعة للحوار الجاد وحرية الرأي، لأنه لن يحدث الإصلاح الحقيقي دون إتاحة المساحة الكافية والوافية للمؤسسات المقابلة والهيئات المضادة كالصحافة، وتحرير المبادرة السياسية والمجتمع المدني من الاستغلال والتوجيه. ويقع جزء من المسؤولية هنا ليس على السلطة بالضرورة، ولكن على الفاعل السياسي والمدني أيضاً. الرئيس عبد المجيد تبون يقر بأن الجزائر تعيش بعض الفوضى بسبب الديمقراطية المزيفة. العدو الحقيقي للجزائريين إذن هو الديمقراطية المزيفة التي أنتجت الفوضى والفساد، وليس من الذكاء طرح السؤال حول كيف وصلنا إلى الديمقراطية المزيفة باسم "جزائر العزة والكرامة" ولا عن السبيل لتجنب إعادة إنتاج ديمقراطية مزيفة أخرى باسم "الجزائر الجديدة".