الجزائر ... التجربة الدامية والمعنى الممكن عربياً

الجزائر ... التجربة الدامية والمعنى الممكن عربياً

24 ابريل 2015

انفجار في سكيكدة في الجزائر (21 يناير/2014/أ.ف.ب)

+ الخط -
مع ما نشهده، اليوم، من فظائع متزايدة في الشرق الأوسط، ما بين انعدام الاستقرار وتفاوت درجات العنف والموت والدمار في ليبيا ومصر وسورية والعراق، وأخيراً في اليمن، قد نرغب في تذكر تجربة الجزائر في تسعينيات القرن الماضي، واستخلاص دروس منها.
لم ينس الجزائريون إلى يومنا هذا "سنوات الرصاص"، فغياب الربيع العربي عن الجزائر عام 2011 كان يرجع إلى الذكريات المؤلمة، وخيبة الأمل من الماضي القريب. ولكن، بالنسبة للحكومات والشعوب في بلدان المنطقة التي تعاني حالياً من الاضطرابات، تبدو الجزائر القريبة بعيدة للغاية. لذا، دعونا نعيد التجربة الجزائرية إلى محط الاهتمام. ولكن، قبل أن نبدأ، دعونا نستعرض بعض المعلومات التاريخية.
في محاولة منه لإعادة الاستقرار إلى الاقتصاد السياسي الداخلي في مواجهة الاحتجاجات الشعبية الهائلة عام 1989، قام الرئيس الجزائري في حينها الشاذلي بن جديد بمراجعة الدستور، ودعا إلى الانتقال إلى نظام متعدد الأحزاب، كما عيّن حكومة جديدة ذات توجه إصلاحي. وفي ربيع 1991، اضطر الإصلاحيون إلى ترك مناصبهم، وبعد ذلك بستة أشهر، عشية انتصار وشيك لحزب إسلامي (الجبهة الإسلامية للإنقاذ) في الانتخابات البرلمانية، ألغى الجيش، صاحب السلطة الحقيقية في البلاد، الانتقال الديمقراطي وقام بانقلاب عسكري. لم يكن الجيش ليسكت على تغيير حقيقي للنظام الذي يسيطر عليه ويتربح منه. وبدلاً من ذلك، أعلن حالة الطوارئ، وحظر الحزب الإسلامي، واعتقل قادته وآلافاً من مؤيديه وأعضائه الحقيقيين أو المحتملين. وفي المقابل، تضخمت صفوف الجيش وانفجرت الجزائر. وبحلول ربيع عام 1992، كانت البلاد في قبضة الحرب الأهلية.
سقطت الجزائر في براثن العنف، وعلى مدى السنوات العشر التالية، وسط سفك الدماء وانعدام الأمن بشكل عام واقتصاد محتضر، قُتل حوالى مئتي ألف مواطن جزائري، وفُقد آلاف آخرون. تولت مليشيات المتمردين وقوات الحكومة والمليشيات المضادة عمليات الخطف والذبح والإعدامات الجماعية، ما أرهب السكان المدنيين، طولاً وعرضاً. كما ازدهر اقتصاد سري لقلة نسبية تمكنت من الاستفادة من الأحداث، بينما عانى الشعب الجزائري من المصاعب المادية والحرمان.  وفي عام 2002، أفسحت الحرب الأهلية المجال للصراع منخفض المستوى، بسبب عدة عوامل. إذن، ما الذي يمكن أن نتعلمه من التجربة الجزائرية؟
بمجرد قبولها والشروع فيها، يجب الاستمرار في الانتخابات حتى النهاية، ويجب احترام النتائج والالتزام بها، تماماً مثل التحولات السياسية، وإلا تضاعفت المظالم وتصاعدت المعارضة وتفاقم انعدام الاستقرار.
يجب إشراك الإسلاميين في العملية السياسية، مثل القوى السياسية الأخرى، ذات التمثيل الشعبي والمؤيدين، فهم جزء من المجتمع، كما أن الخطاب الإسلامي كان أحد أشكال التعبير (السياسي) المحتملة القليلة في الشرق الأوسط، حيث كانت المساحة المؤسسية للنقاش بين الاهتمامات المتنافسة مقيدة بشكل أو بآخر. فليس من المستغرب، إذن، أن يكون الإسلاميون بارعين في التنظيم السياسي والحشد.

لا ينتج عن القمع الشديد سوى التطرف. وينطبق ذلك، أيضاً، على الإسلاميين المعتدلين وجميع قوى المعارضة. وقد أدى لجوء القيادة الجزائرية إلى القوة والقمع، من خلال حبس أعضاء الجبهة الإسلامية للإنقاذ ومؤيديها، وتعريض كثيرين منهم للتعذيب، إلى نتائج عكسية، فقد نشطت المعارضة بدلاً من تحييدها. وفي خلال فترة قصيرة، ظهر المتمردون، وتطرفوا واكتسبوا مؤيدين لهم. ولكن، مع انعدام الهيكل المركزي للقيادة وغياب السلطة السياسية أو الأخلاقية، انقسم المتمردون إلى جماعات متعددة. وأمام وحشية الحكومة المستمرة، وغياب الخطاب السياسي المتطور، تنافست مجموعات المتمردين المنقسمة فيما بينها ومع قوات الحكومة، متسببين في أكبر أذى وأسوأ إرهاب ممكن. وباختصار، تسببت استراتيجية الحكومة القمعية الشديدة في مد الصراع، من حيث المدة والأطراف والعنف والفظائع.
بغض النظر عن الأيديولوجية، يتحول مثل هؤلاء المتمردون إلى عنصر جذب للمهمشين اقتصادياً وسياسياً واجتماعياً في مجتمعاتهم، والذين يعتبرون الانضمام إلى هذه الجماعات بمثابة علاج لمشكلاتهم، فهم موهومون ومستاؤون، ويفتقرون إلى البدائل. وقد شكل الشباب الذين يعانون من التفكك الاجتماعي والاقتصادي والتهميش أغلبية أعضاء جماعات المتمردين الجزائرية، في تسعينيات القرن الماضي. بالطبع، كان البعض يفضل البديل السياسي الذي طرحته القيادة. مع ذلك، انضم كثيرون، لأسباب اقتصادية أو اجتماعية ونفسية، فقد وفرت الجماعات فرص عمل ومصادر للرزق، ما أتاح لأعضائها اكتساب المكانة الاجتماعية واحترام الذات، وحتى الانتقام ممن عرضهم لسوء المعاملة، سواء على يد الدولة أو الجماعات المتنافسة الأخرى. وبالنسبة لمن كانوا يعانون من الشذوذ الاجتماعي والإقصاء، أعطت الجماعات المعنى لحياتهم، وضمتهم إلى المجتمع. ولكن، كان هناك من لم ينضموا إلى هذه الجماعات بشكل تطوعي، بل من خلال التهديدات والتلاعب.
يؤدي تكاثر جماعات المتمردين والجماعات المضادة لها إلى تصاعد العنف والوحشية، إلى جانب الصراع الداخلي. كما يزيد التشرذم من تعقيد التسويات المطروحة. وفي النهاية، لا يوجد حل عسكري، فمهما كان حجم الموارد المكرسة للقضاء على "الآخر"، ومهما كان مدى تعب الأطراف من الحرب، لا يبقى حل سوى جلب الجميع إلى طاولة المفاوضات، أو الوصول إلى صفقة سياسية. والبديل هو العنف وانعدام الاستقرار إلى الأبد.
في الجزائر، انتهت المفاوضات التي دعت إليها الحكومة عام 1997، بعقد هدنة مع جماعتين من المتمردين، وتلا ذلك العفو عنهما عام 1999. أما الجماعات الأكثر تشدداً فقد رفضت مبادرات الحكومة، وهكذا استمر الصراع. ومنذ ذلك الوقت، تحولت هذه الجماعات إلى "تنظيم القاعدة في المغرب الإسلامي" وفروع أخرى. ولديهم اليوم طموحات وعمليات عبر وطنية.
تشير التجربة الجزائرية إلى أن الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، يلعب لعبة خطيرة للغاية في مصر، فجهوده الرامية إلى القضاء على جماعة الإخوان المسلمين، وإسكات الجميع تنذر بالشر. ولا شك أن استجابة بشار الأسد الشرسة لما بدأ، كتظاهرات سلمية تنادي بالتغيير، والتي تلتها وحشية النظام المستمرة، أدت إلى تكرار التجربة الجزائرية في سورية. وعلى الرغم من تعدد الأطراف الفاعلة (بما في ذلك القوات الجوية الأميركية)، لا يملأ فراغ السلطة في سورية والعراق سوى تنظيم الدولية الإسلامية "داعش"، والذي يترك بصمته ببث الرعب (مع تجنيد الضعفاء والموهومين في صفوفه). وفي مقابل ما يستخدمه نظام بشار الأسد من براميل متفجرة وأسلحة كيميائية وتعذيب، ينافسه التنظيم بالذبح والحرق والتدمير، بينما يتقدم بسلاسة عبر الحدود إلى العراق، وأخيراً إلى ليبيا.
تفشل الحلول العسكرية، ويؤدي القمع إلى نتائج عكسية. لذا، يجب جلب جميع القوى السياسية المنظمة إلى طاولة التفاوض، حيث تُسمع أصواتهم وتُلبى مطالبهم. كما أن إدماج جماهير المنطقة اجتماعياً واقتصادياً ضروري، ويعد شرطاً لا غنى عنه للاستقرار والأمن.

avata
مريام لوي

جامعية وباحثة كندية، أستاذة العلوم السياسية والعلاقات الدولية في جامعة نيوجيرسي، لها كتب وعدة دراسات