التعليم في مصر.. تلاميذ في مختبرات الفتنة

التعليم في مصر.. تلاميذ في مختبرات الفتنة

29 ديسمبر 2016
(في باحة مدرسة ابتدائية، تصوير: كريستيان ساينس مونيتور)
+ الخط -
ليس من الصعب على أحد درس في مصر، أن يستحضر هذا المشهد المتكرّر في كل السنوات الدراسية: يسأل مدرّس التربية الإسلامية، عن الطلاب المسيحيين بمجرّد دخوله الفصل قبل الشروع في درسه، ويأذن لهم بالخروج من قاعة الدرس، فيخرجون بشكل متخاذل؛ ويمضون وقتهم بين التردّد على طوابق المدرسة، أو الجلوس في فنائها وحدهم.

هذا هو الحال الذي يعيشه الطلاب، في دولة تعتمد دين الأغلبية في دستورها مصدرًا للتشريع، فيتسرّب إلى بقية مواطنيها الإحساس بالتمييز والشعور بالانتماء للأقلية.

مدرّس اللغة العربية في المرحلة الثانوية يشرح لتلاميذه بأن المسيحيين اتخذوا المسيح إلهاً لهم و"يزعمون" بأن لله ولدًا ضمن المقرّر الذي يشرحه، لكن حماس المدرّس بدأ يختفي حينما انتبه إلى وجود طلاب مسيحيين في قاعة الدرس، وتحايل بصورة أخرى كمن يحاول تبرير ما كان يقوله، ليُظهر تسامح الإسلام مع بقية الديانات، مستشهدًا بأدلّة تعتبر النصارى أقرب الأديان السماوية، لكنه يحذّر في مقابل ذلك من اليهود.

غاب زميلنا المسيحي الوحيد عن المدرسة لأكثر من شهر، ودخل مدرّس مسيحي يسأل عنه، فلم يجد له أصدقاء مقربين منه أو أحدًا يعرف منزله، وبدا منفعلًا لعدم اهتمام أحد بالطالب، وشعوره بوجود تجاهل له، وكون الأمر لا يعنيهم ولا يكلّف أحد نفسه عناء السؤال عن زميله.

وكان هذا الطالب قد اختار التعليم "المنزلي" الذي يُعفيه من حضور المدرسة سوى لأداء الامتحانات فقط.

شعور بعدم الانتماء
في مادة الدين يُطرد الطلّاب من الفصل، وفي مادة اللغة العربية يجبرونهم على الحضور وسماع كلام يعمّق لديهم شعوراً بعدم الانتماء، وحفظ آيات قرآنية وأحاديث نبوية أيضًا، وربما يتبادر إلى إذهانهم سؤال منطقي: لماذا لا توجد آيات من الإنجيل أيضًا داخل بقيّة المقرّرات الدراسية والمناهج؟

عندما تصفّحت مادة الدين لابن شقيقتي قبل أيّام، لاحظت أن الكتاب المقرّر على الصف الثاني الابتدائي، يتحدّث عن أهوال يوم القيامة، وعندما ناقشته في أحد الدروس أشار إلى أن هذه الآية يقول لهم المدرس عنها، إن المقصود من وراءها المشركين والمسيحيين واليهود الذين حاربوا الرسول في المدينة.

وعندما بادرته بالسؤال عن زملائه المسيحيين في الفصل، قال لي: "كان لنا زميل واحد وطلب نقله لفصل آخر يدرس فيه طلاب مسيحيون أيضًا".

يظل هذا الوضع يلقي بظلاله على التلاميذ في مصر، ويرافقهم في كل أعمارهم ومراحل دراستهم، ويطغى على تفاصيل حياتهم ومعاملاتهم، فثمة طرف مغيّب بشكلٍ عمدي وآخر يتجاهلهُ، كلاهما لا يعرف الآخر، وأثر الغياب يمتدُّ بينهما، وتتوارى مشاعرهما الحقيقية خلف وجوه مستعارة.

الأزمة في جوهرها لا تنفصل عن وعي عام لدى الدولة التي تجهض فيه أي مشروع يُصنَّف فيه المواطن بهويته الدينية لا الوطنية، لا يختلف ذلك عمّا تؤسّسه المدرسة ومناهج التعليم أسوة بما يسمعه المسيحي في مدارس الآحاد بالكنيسة والمسلم في الجامع.

إلغاء حصّة الدين
فالحاجة ملحّة إلى جعل دور المدرسة يتمحور حول بناء شخصية قادرة على التفكير النقدي واكتساب المعارف العلمية والأدبية التي تلحقنا بالتطور المعرفي العالمي، وأن تكون هناك مادة تناقش قيمًا وأخلاقيات إنسانية مشتركة تناسب الواقع، بحيث لا تتجاوز خصوصية الفرد في أدائه واعتناقه لمبادئه وأفكاره وطقوسه، من دون أن تتبنّاه مؤسّسة تعليمية أو غير تعليمية داخل الدولة.

عندما طالب أحد أعضاء مجلس النواب بإلغاء حصّة الدين ثم تراجع عن ذلك واكتفى بتعديل المنهج فقط، كان لدي قناعة تترسّخ أن هذا الحديث الذي لطالما أطلقته الجماعة الثقافية منذ السبعينيات، وهو جزءٌ من مناورة غير جادة كلما اشتدّت الأزمة الطائفية في عهد الرئيس الراحل السادات، حيث سجلت فترته الرئاسية أولى وقائع الفتن الطائفية بين المواطنين، والاعتداء عليهم وحرق منازلهم ومنعهم من أداء الصلاة، وصولًا لاعتقال البابا شنودة ضمن اعقالات سبتمبر/ أيلول 1981. والتي تزامنت مع إجراءات سياسية جديدة إلى جانب مادة تقرّ أن الإسلام دين الدولة، وتحالفه مع التيار الإسلامي، وانفتاحه عليهم وتهيئة بعض المواقع الاجتماعية مثل الجامعات والنقابات حتي تصبح تحت سيطرتهم وكبح نفوذ اليسار.

السلطة والارهاب
لا يملك نظام عبدالفتاح السيسي اليوم سوى ورقة الإرهاب والتطرّف التي تعد العمود الفقري الذي ينتصب عليها حكمه، ويستلهم منها شرعيته، وبالتالي ينتقل من الترويج والدعوة إلى تجديد الخطاب الديني عقب أزمته مع الإخوان، بعد عزل الرئيس المنتخب محمد مرسي بهدف قطع الطريق على التيّارات الدينية، إلى المناورة بإلغاء حصة الدين عقب حادث تفجير الكنيسة البطرسية، وتعديل مادتها في المدارس، بأن تجمع قيمًا مشتركة تقرّها الأديان السماوية، مثل الرحمة والتسامح والمحبة.

لكن النظام السياسي لا يملك آليات تطوير المناهج، بقيم حداثية أو رؤية ترفع عن الدولة ومؤسّساتها أشكال التمييز الطائفي والطبقي في كافة المجالات، وتجفيف منابع الإرهاب، فتظلّ الدولة تعتمد على استخدامها النفعي للدين لتبرير إجراءاتها السياسية وإقصائها لخصومها وحتى قمعها لهم.

إذا كانت السلطة تجهر بمحاربتها الإرهاب، فهي تستفيد منه، وتعتبر وجوده مصدر شرعيتها، وتبني جزءًا كبيرًا من خطابها السياسي على عدائها لهم، فتنسب لهم أعمال العنف التي توفّر غطاءً شرعيًا ومبررًا منطقيًا لتراجع أداء الدولة السياسي، وإحكام قبضتها الأمنية الباطشة، والتغطية على إخفاقاتها في تحقيق مشاريع استثمارية وتنموية، وتفكيك منظومة الفساد المافيوية التي يحتكرها رجال السلطة والأعمال ضد غالبية الشعب.

وتبقى المعركة الأمنية والأمنية فقط، مفتوحة مع التيارات الدينية، بحيث يصبح دور الدولة هو الحفاظ على الأمن لدى الجماهير التي تخشى من الفوضى، بينما تتراجع مواجهتها الفكرية والثقافية، فكلاهما يستفيد من الآخر، إذ تتفاوت مؤشّرات العلاقة بينهما على نحو براغماتي ولا يهدف إلى استئصاله.

المساهمون