التعذيب في العراق... بين أبو غريب وقوات حفظ النظام

التعذيب في العراق... بين أبو غريب وقوات حفظ النظام

03 اغسطس 2020
+ الخط -

بعد دوي فضيحة التعذيب في سجن أبو غريب عام 2004 من قبل الشرطة العسكرية الأميركية بحق سجناء عراقيين، زرت السجن -بحكم عملي- وكان مدير السجن قد تم تغييره حيث كان المدير الجديد للسجن هو الجنرال جيسي ميللر قادما من غوانتامو، من أجل تبييض الصورة..

دخلت السجن مع أربعة إعلاميين آخرين، إلى البناية نفسها التي كانت الحادثة قد وقعت فيها، والمؤلفة من طابقين، رأيت سجينات من مختلف الأعمار، في غرف انفرادية بأبواب حديدية، إحداهن كما كانت تبدو في الخمسينيات من العمر، نظرت إلينا نظرة عميقة وكانت بالزي التقليدي وبيدها سبحة، خرجنا، وكانت الغرف التي لم نرها من الجهة الخارجية للبناية سيئة الصيت منذ عقود طويلة، فيها فتحات، عدد من السجناء أخرجوا أيديهم ملوحين بمناديل ملونة أو مناشف، نظرت ملتفتا بين فينة و أخرى إليهم، تحدثنا مع المدير الجديد للسجن، لم ينكر لأن القضية غير قابلة للنكران، لكنه وعد بعدم التكرار وبالالتزام..

الإعلام العراقي الرسمي و غير الرسمي، صرف الكثير من الوقت في التغطية على حادثة التعذيب، وكان كما هو الآن، الاحتلال لا بد أن يرحل، وهؤلاء لا يحترمون العراقيين أهل النخوة والغيرة وسوف نلقنهم درسا مؤلماً..

اليوم وبعد مضي 16 سنة، ونقل السيادة والحكومة الوطنية، ولجان حقوق الإنسان، والشرطة الوطنية، المشهد يتكرر، لكن هذه المرة بأيد عراقية وطنية -حكماً-، والفضيحة أن فيديو مشهد التعذيب المهين للطفل -محمد- حدث على يد قوات حفظ النظام.. يا للويل.. طفل يتيم، يافع، مسلوب القوة كلياً، يُهان بشكل وحشي على يد من يلبسون الزي الرسمي (العراقي).. ظهر الفيديو إلى العلن في 1-8-2020 ثاني أيام عيد الأضحى. كل جرم الفتى أنه متظاهر..!

الحق أن المطلع على الوضع العراقي منذ عام 2003، يلحظ أن الأحداث الإثنية والطائفية التي مرت بها البلاد، خلقت نوعاً من حس الازدراء للإنسان، ونوعاً من السادية في التعامل مع الآخر

مؤلف كتاب "علم النفس السياسي" دايفيد باتريك هوتون، عندما يتحدث عن نظرية التفاحة الفاسدة يستشهد بجملة وقائع، منها واقعة سجن أبو غريب، حيث يشرح وهو ينظر في خضم التحليلات النفسية سبب إقدام جنود أميركيين على تعذيب وانتهاك حقوق وكرامة الإنسان، في حين أن مهمتهم بالأساس هي حماية الحقوق والحفاظ على كرامة الإنسان؟

ما الذي تغيّر في هؤلاء الجنود؟.. هل إنهم كانوا فاسدين في وسط نظيف؟.. أم أنهم كانوا نظيفين لكن الوسط -الصندوق- كان فاسداً، فأفسدهم الهواء الملوث داخل الوسط الذي عاشوا فيه؟

الأجوبة مختلفة، نحن هنا لسنا بصدد مناقشة اختلافات علماء النفس السياسي، بل بصدد إقرار أن التفاحة الفاسدة أو الصندوق الفاسد، أين كان الفساد يكمن، لا بد من التخلص منه، وتنقية الأجواء وزرع بذور صالحة..

تعذيب محمد لا يختلف عن الكثير من الحالات التي تظهر على السطح داخل المجتمع، وخلال جائحة كورونا ظهرت الكثير من النتوءات والنقاط السوداء في الجسم الإنساني العراقي، كقصة ملاك الزبيدي، التي احترقت أمام نظر أهل زوجها، القضية في هذه الأحوال لها جانبان، التربية العائلية، والتربية الرسمية وأخلاق الوظيفة، لا شك أن للتربية العائلية دورا لا يضاهى في هذه الممارسات، لأن من يملك قلباً شرساً متوحشاً لا مفر من الإقرار بوجود خلل في تربيته أو الحياة التي قضاها قبل ذلك، ثم يأتي دور الصندوق، أي المؤسسة التي يعمل فيها هذا المخلوق، وبالتوجيهات المعنوية التي تكوّن الاتجاه العقلي والنفسي للجندي أثناء أداء واجباته..

في العراق الكثير من المنظمات التي تعتني بحقوق الإنسان وتدريس القانون، في البرلمان لجنة حقوق الإنسان، مفوضية حقوق الإنسان، البعثة الأممية، كلها من واجب الحكومة توظيفها في سبيل تربية التفاحات الفاسدة وتنقية الصندوق الفاسد، ورمي العنصر الفاسد حتى لا يعدي بجرثوماته العناصر الصالحة..

والحق أن المطلع على الوضع العراقي منذ عام 2003، يلحظ أن الأحداث الإثنية والطائفية التي مرت بها البلاد، خلقت نوعا من حس الازدراء للإنسان، ونوعا من السادية في التعامل مع الآخر.

عندما يتأمل الإنسان ما فعله تنظيم "اللا دولة" بالإنسان الآخر أو المخالف من ممارسات وحشية -مثل منظر حرق الطيار الأردني وهو حي داخل قفص للحيوانات في الرقة-، وما حدث في أبو غريب وصولا إلى إهانات قوات حفظ النظام لـمحمد، يعتقد أن الروح السادية التي تتلذذ بتعذيب وإهانة المقابل متفشية من مكان للآخر وإن لم يكن تفشياً عاماً. انتهاكات السجون والاعتداء على النساء والرجال أثناء الغارات و سلب ممكتلكات النازحين، كل واحدة منها تكون جزءا من المشهد اللاإنساني المؤلم..

غريب أن نلوم الدول الأخرى بالنظر إلى العراقي نظرة شبه دونية في بعض الأحيان، ونحن نرى النظرات الدونية بعضنا لبعض.. يا ربي أي دِرْك و صلنا إليه؟!.