التبعات السياسية والاقتصادية لسقوط الطائرة الماليزية في أوكرانيا

التبعات السياسية والاقتصادية لسقوط الطائرة الماليزية في أوكرانيا

02 اغسطس 2014

زهور على أسماء ضحايا الطائرة الماليزية قرب أمستردام (يوليو/2014/أ.ف.ب)

+ الخط -

سقوط طائرة مدنية مشكلة، وسقوط جثث أوروبية من السماء يزيد في الطين بِلّة. ومقتل 198 مواطناً هولندياً على متن الطائرة الماليزية المُقلّة على متنها 298 راكباً، أزمة لا تحمد عواقبها. وهناك أستراليون وبريطانيون وألمان وبلجيك، ومسافرون من الفيلبين وأندونيسيا وكندا ونيوزلندا قضوا جميعاً، بعد إصابة الطائرة بصاروخ أرض ـ جوّ من طراز "بوك" موجّه، أطلقته ميليشيا مدعومة من موسكو، وموسكو تعني فلاديمير بوتين منذ العام 1999 وحتى اللحظة، الزعيم غير المعني بحلّ الأزمة الأوكرانية، بالقدر الذي يرغب فيه بإزالة الآثار السلبية لسقوط الطائرة الماليزية.
إن كانت الشعوب العربية متسامحة، ويمكنها، في وقت لاحق، ابتلاع حرقة ومأساة مقتل أهل

غزة، والتنكيل بعدة شعوب عربية ومقتل مئات الآلاف في سورية وليبيا والعراق، فهناك شعوب لا تتساهل مع مسألة خرق حقوق الإنسان، وتجاهل قيمة الحياة البشرية، كما الحال مع الشعب والحكومة الهولنديين. من جهة أخرى، تبدو دبلوماسية أوباما أضعف بكثير من أسلافه، وخصوصاً رونالد ريغان الذي وجّه تصريحات نارية، بعد إسقاط روسيا طائرة كورية جنوبية، والأمر ينسحب على أنجيلا ميركل وديفيد كاميرون، وغيرهما من قادة دول المنظومة الأوروبية الذين يخشون التعقيدات المترتبة على فرض عقوبات اقتصادية جديدة وصارمة ضدّ روسيا، بسبب حجم المصالح المشتركة مع هذه الدولة، وخصوصاً في مجال موارد الطاقة والتبادل التجاري.

على العكس تماماً بالنسبة لهولندا التي فقدت أكبر عدد من الأشخاص في الطائرة المنكوبة التي أُسقطت بصاروخ "بوك" متطور. هولندا دولة القانون والعدالة والأخلاق الأوروبية، وتعرف جيداً ما يمكن التسامح معه دون ذلك، وهذا من سوء حظ الزعيم بوتين. تمكنت الأجهزة الأمنية المعنية في منطقة سقوط الطائرة من التغطية على تفاصيل الحدث، والحيلولة دون وصول المفتشين الدوليين بالسرعة الممكنة، للوقوف على ملابسات الحادث المأساوي. وليس من المتوقع أن تتوصل ألمانيا والولايات المتحدة وبريطانيا، التي خسرت عشرة من مواطنيها على متن الطائرة، ليس من المتوقع أن يتوصلوا إلى الحقائق المنشودة بشأن تدمير الطائرة وإسقاطها، وطيّ الملف قريباً، لكن هولندا لن توافق على تناسي هذه المأساة بالسرعة التي يرجوها بوتين. وقد أدّى حادث سقوط الطائرة إلى تغيير توصيف الأزمة الأوكرانية إلى حرب تقليدية، خاضعة لكل المعايير المتعارف عليها في زمن الحرب، وليست مجرّد لعبة "عسكري وحرامي"، كما يشتهيها بوتين، ومَن يظنّ بأنّه قادر على الفوز بهكذا حرب، كمَن يؤمن بإمكانية الفوز على إعصار الحروب الخالية من محتوى سياسي، فاشلة في نهاية المطاف.

أدلجة الإعلام الروسي عسكرياً
لم تتوقف وسائل الإعلام الروسية عن ترويج القدرات العسكرية الروسية، وبات 40% من الشعب الروسي يتوق لحرب مع أوكرانيا. كيف يمكن لبوتين، الذي يتقن مغازلة الكاميرات

ومجالس الحوار المتلفزة المريحة، يشعر فيها وكأنّه حقيقة إمبراطور غير متوّج، كيف يمكن له التعامل مع هذا الواقع الجديد؟ حتى وإن كان غير راغب بهذه الحرب، وقد أشعل مشاعر التفوّق الروسي الشعبي، بعد انقضاضه على شبه جزيرة القرم، وضمّها تحت ألوية الأعلام الروسية. قد يكون بوتين مدركاً لهذه الحقيقة، لكن الوقت لم يسعفه لتهدئة الأوضاع، وخفض معدلات التوتر والاندفاع، إذ سرعان ما هوت الطائرة الماليزية في شرقي أوكرانيا، ربّما للتذكير بالتاريخ المجيد للشعب الروسي، وقد تكون هذه الخطوة تحدّياً لبوتين شخصياً، للمضيّ بعيداً في مخططاته. هل المقصود بذلك ضمّ شرقي أوكرانيا أيضاً، والبدء بالتفكير جدّياً بضمّ أجزاء من ملدوفيا؟

الشعب الهولندي، البالغ تعداده 16 مليوناً، يعتبر نفسه مجتمعاً عولمياً، لكثرة ترحال مواطنيه وتجوالهم حول العالم. يعشقون العلوم والاكتشافات، وقد تكون روسيا من الدول العريقة التي تقيم علاقات تجارية كبيرة مع هولندا، منذ العصر القيصري. لكن، على المحكّ الآن مقتل 192 مواطناً هولندياً، جلّهم من الخبراء في مكافحة وباء الإيدز. ويفتخر هذا البلد بما لا يقبل الشكّ، بالتقاليد والمعايير الأخلاقية والإنسانية، وبوتين، في هذا الشأن، يقف في حيرة على الشاطئ الآخر من خارطة حقوق الإنسان، ولا يمثّل لسياسته أهميةً كبيرةً مقتل مئة أو ألف أو مئة ألف أو أكثر من ذلك بكثير، والمعايير الأخلاقية في هولندا تفرض عليها الدفاع عن مواطنيها ومصالحها، وستفعل ذلك بالطبع.

سارع مواطنو موسكو إلى وضع باقات الزهور أمام السفارة الهولندية، كتب عليها: "سامحونا". قد تفعل هولندا وتسامح، لكن، ليس الآن. وقف هذا البلد الصغير، مقارنة بالدول العظمى، في وجه انضمام بلغاريا ورومانيا لفضاء شنغن طوال السنوات الماضية، وقف وحيداً في وقت وافقت فيه معظم دول المنظومة الأوروبية على انضمامهما إليه، وبعدما أكّدت مفوضة الشؤون الداخلية، سيسيلسا مالستروم، أنّ الشروط التقنية أصبحت جاهزة لانضمامهما، إلا أنّ هولندا أصرّت، أولاً، على إتمام عمليات الإصلاح في قطاع القضاء، والتيقّن من بدء الدولتين المعنيتين بإصدار أحكامٍ نافذةٍ بحق المجرمين ورجال المافيا والفاسدين في القطاع العام، وصدور تقريرين متتاليين من اللجنة الأوروبية يفيدان بذلك، ولم تنجح المحاولات الأوروبية لثني هولندا عن موقفها، فما بالك بمقتل هذا العدد الكبير من مواطنيها، وعدم احترام حرمة الجثث! هولندا ستقف حجر عثرة أمام المصالح الروسية، ولن تحصل المشاريع الروسية الكبيرة في القارة الأوروبية على إجماعٍ، لتنفيذها في المستقبل المنظور، بسبب الفيتو الهولندي المتوقع. وفي الاتصال الهاتفي الذي أجراه مع بوتين، قال رئيس الوزراء الهولندي، مارك ريوتي، إنّه يشعر بالصدمة من المناظر المواكبة للحادث، والتي تؤكد عدم احترام حرمة الموتى، والاستهتار بمتطلبات التحقيق العاجل، والمسارعة إلى تأمين ثلاجات لحفظ الجثامين، وما إلى ذلك. وقال وزير خارجية هولندا، فرانس تيمرمانس، في مجلس الأمن الدولي، إنّ مشاعر الحزن تحولت إلى غضب، حين شوهدت جثامين الأطفال وحقائب الأمتعة المفتوحة والوثائق وجوازات السفر المتناثرة. وبالطبع، الغضب الهولندي موجّه لموسكو، وهذه بداية أزمة حقيقية في العلاقات المتبادلة بين البلدين. 
  
هناك كذلك تقصير واضح من السلطات الأوكرانية التي وجهت الطائرة إلى تلك المنطقة، ورفضت التعامل مع الأجهزة المعنية، لمعرفة كيفية إسقاط الطائرة، والمسؤول المباشر عن إطلاق الصاروخ الموجّه، وإذا لم تتضح الأمور بشكل قاطع، فإنّ الغرب يميل إلى تحميل مسؤولية هذا العمل الإرهابي لموسكو. وليس من المتوقع التراجع عن إصدار حزمة جديدة من العقوبات الاقتصادية، تشمل صناعة السلاح وتسويقه، وغيره، ضدّ موسكو.

العقوبات السياسية
على الرغم من امتداح محافظ نيويورك السابق، رودي جولياني، الزعيم الروسي، معتبراً إياه زعيماً فذّاً، وصاحب عزيمة قوية، وامتدحه كذلك نايجل فرج، زعيم حزب الاستقلال البريطاني، ومعظم زعماء الأحزاب القوميين في أوروبا، إلا أنّ إسقاط الطائرة الماليزية، وعلى متنها جميع هؤلاء الممثلين عن الدول الأوروبية، ترك آثاراً سلبية عديدة، يصعب

تجاوزها والتغاضي عنها. وكان على موسكو أن تتحمل تبعات تدخلها السافر في أوكرانيا على الصعيد السياسي، أولها فصلها من عضوية الدول الصناعية الكبرى G8، كما ترفض أستراليا، التي فقدت مواطناً على متن الطائرة المنكوبة، الجلوس مع بوتين على طاولة واحدة، في لقاء قمة العشرين في بريزبين في نوفمبر/ تشرين الثاني المقبل، وهناك علامات استفهام عديدة بشأن استضافة موسكو مباريات كأس العالم لكرة القدم عام 2018.

في معزل عن حادث الطائرة الماليزية، تراكمت أخطاء بوتين، في ردود فعله "العنفوية" في الشأن الداخلي الأوكراني، لرغبة الأخيرة بتوقيع اتفاقية تبادل تجاري مع الاتحاد الأوروبي، ورغبة بروكسل، أخيراً، بضمّها للاتحاد الأوروبي، أما الانضمام لحلف شمال الأطلسي، "الناتو"، فيبدو بعيد المنال، ودون قدرات أوكرانيا العسكرية، لأنّ الانضمام الحقيقي والفاعل للناتو يتطلب تجديد سرب الطائرات العسكرية والمعدات القتالية، وهي في معظمها روسية التصنيع والمنشأ، وتحتاج أوكرانيا لموازنات ضخمة للغاية، لا تقوى عليها في المستقبل المنظور، والأمثلة كثيرة في دول أوروبا الشرقية التي انضمت حديثاً إلى الحلف، وما تزال أجهزتها وراداراتها غير قادرة على التمييز بين الطيران الحليف والمعادي.

وتجدر الإشارة إلى أنّ "الناتو" رفض الطلب الأوكراني بالانضمام إليه خلال العام 2008، ولم يتجدد هذا الطلب منذ ذلك الحين، لكن روسيا شعرت بالقلق، ودقّت أجراس الخطر، وعمدت إدارة بوتين إلى تغذية المشاعر القومية، وتأليب الرأي العام ضدّ "الناتو" والعالم الغربي، كما دعمت إدارة بوتين المنظمات الانفصالية في أوكرانيا. جميع هذه العوامل مجتمعةً، أدت إلى حثّ المسلحين على إطلاق الصاروخ المتطور، لإسقاط الطائرة المدنية الماليزية.  

59F18F76-C34B-48FB-9E3D-894018597D69
خيري حمدان

كاتب وصحفي فلسطيني يقيم في صوفيا. يكتب بالعربية والبلغارية. صدرت له روايات ودواوين شعرية باللغتين، وحاز جائزة أوروبية في المسرح