البغدادي .. المُنتخَب

09 يوليو 2014
+ الخط -


جرت العادة، تاريخياً، على تسليم مقاليد الحكم في الدول الإسلامية المتعاقبة، عن طريق البيعة، وهذا وفقاً للمنهاج الشرعي الذي أقرّه الفقهاء في جميع المذاهب، واختلفوا في سبله وطرائقه، ولكن ليس في صلبه.

وهو الإطار نفسه الذي ادّعى "الخليفة"، المكنّى بـ أبو بكر البغدادي، أنه مرّ خلاله إلى الخلافة التي استعادها بعد قرون من أفولها، وعقدها له أهل الحلّ والربط من المسلمين.

على الرغم من التعاطي الأقرب للسخرية، واللامبالاة من عموم الجمهور العربي والمسلم، إلا أنَّ الأمر صار واقعاً سياسياً وعسكرياً، استدعى بيانات رافضة ومُفنّدةً من أعلى الهيئات والمؤسسات الإسلامية، تُظهر بطلانه شرعياً، كما نهض سياسيون من غفلتهم محذرين ومنذرين.

دارت الأسئلة سابقاً، ولا زالت، بشأن الأدوار المفترضة لنظام بشار الأسد الديكتاتوري في سورية، وحكومة نوري المالكي الطائفية في العراق، ومن ورائهما نظام الملالي في طهران، في إيجاد تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام "داعش" ودعمه، التي من رحمها وُلدت "دولة الخلافة"، وذهبت نظرية المؤامرة إلى ما هو أبعد جغرافياً وسياسياً، فربطت الأمر بسيدة العالم التي لا يتم شيءٌ بدون مشيئتها ورعايتها، الولايات المتحدة التي سبق أن تورطت في إيجاد مجموعات إسلامية متطرفة، ما لبثت أن انقلبت عليها، ولم ينسَ بعض مُنظِّري القومية ربط الحدث بإسرائيل، جملةً وتفصيلا، كما جرت العادة، وكما يُحتِّم الوفاء للقضية!

بقيت الأسئلة بعيدة تماماً من مركز الأعشار الذي تولى قيادة دفة الحدث، وصناعة القرار، وتركيب التفاصيل، لتصبح بركاناً بحجم ثورة، اشتعلت مع اشتعال غضب محمد البوعزيزي وجسده، لتستحيل ناراً بنكهة الأمل، تحرق تاريخ الطغاة، وتعيد الأوطان إلى مسارات الحقيقة التي غابت عقوداً عن سماء وخيالات الجغرافيا الممتدة بين المحيط والخليج.

هذه الشعوب التي انكفأت، وتردّدت، وحوّلت مسارها، ليعود كثيرٌ منها إلى سيرته الأولى، خانعاً قانعاً بما قُسِمَ له من ذلّ وخبز، من ثم ليأتيهم البغدادي معلناً نفسه خليفة عليهم.

نجح البغدادي في معركة الخلافة، قبل أن يعلنها، نجح عندما أبى الجزائريون إلا أن يعيدوا انتخاب رئيسٍ غيّرَ الدستور سابقاً لحسابات بقائه في السلطة، وبقيَ مجدّداً على الرغم من أنه رجل مريض غير مؤهلٍ للحكم صحياً، قبل عدم أهليته الدستورية، وفساد نظامه.

ونجح عندما اقتتل الليبيون بعد إطاحة ديكتاتورهم، ولم يقبلوا الاحتكام للشرعية والقانون، وتشرذموا أقاليمَ ومناطق وقبائل، أكرمهم أقواهم، وعيونهم على النفط والسيطرة، لا على وحدة الوطن واستقراره.

كذلك فعل اليمنيونَ، أو فُعِلَ بهم، من المتقاتلين على أرضهم من عرب وعجم وفرس. وفي مصر، كان الانتخاب المبكر لـلخليفة في صناديق الاقتراع، ومن قبلها عبر تحركات تمرد، التي تمردت على ثورة المصريين، فاستجاب لها بعضهم، وخلعوا أول رئيس مدني مُنتخب في تاريخ بلدهم.

ليس صحيحاً تماماً أنَّ عسكراً مدعومين من قوى خارجية وحدهم أطاحوا آمال المصريين وسرقوا منجزهم الديمقراطي التاريخي، فهؤلاء استمدوا شرعية فعلتهم من الشعب الذي يقاتل الجميع به، ومن أجله، فأكثر الأرقام تشاؤماً تؤكد أن أكثر من ثمانية ملايين مصري وقّعوا على عريضة تمرد الشهيرة التي دعت إلى خلع الرئيس المنتخب، ويبدو العدد كبيراً ومؤثراً، حتى لو تجاهلنا الرقم الذي تحدثت عنه حكومة الانقلاب، والذي مطته ليتخطى حاجز الثلاثين مليون مواطن مصري.

هؤلاء جميعاً، ومعهم كلُّ من أعطى صوته لنوّاب نوري المالكي في الانتخابات البرلمانية العراقية، والذين شاركوا في انتخابات الدم السورية، في محاولة يائسة لاستعادة شرعيةٍ أبطلتها دماء الأطفال إلى يوم يُبعثون، انتخبوا ونصّبوا البغدادي خليفةً حاكماً بأمر من انقلبوا على قيم الحق والحرية والعدالة والكرامة.

لو كانوا آزروا هذه القيم وانتصروا لها، ولو بصمتهم، أو عزوفهم عن دعم الديكتاتوريات، لكانت التجربة استكملت تفاصيلها، وخلقت من تراكمها تجربة ديمقراطية شعبية حقيقية، تدخل مختبر التجريب والتدريب، لتخرج بعد حين كائناً مكتملاً غير خديج، يملك كلّ أسباب البقاء والتطور والارتقاء.

إنَّ انحياز قطاع من بعض الشعوب في المنطقة إلى الطغاة، ولا مبالاة آخرين، دفع باتجاه التطرف والانخراط اليائس في منظوماتٍ متطرفة، لم يجدوا غيرها موئلاً يحقق غاياتهم في الانتقام الذي أصبح بذاته هدفاً، كما أن الردة عن الثورة في مصر دفعت كثيرين إلى تحويل مسارهم لشعورهم بعدم الجدوى، واتخذوا من الناس عدواً لهم، بعد أن كانت كل الجهود متلازمة في مسار إسقاط الأنظمة الطاغية.

الشعارات التي رفعها مؤيدو الأسد تحمل معنى واحداً، هو بقاء الأسد أو نحرق البلد، ومع عبد الفتاح السيسي، أيضاً، في حملة "كمّل جميلك"، وكأنما تبدو مقدمات منطقية لـ"دولة الخلافة"، فهل بعد خلافة البغدادي من حريق لسورية، وهل بعد جميل السيسي بترويج الإرهاب لقتل نصف شعبٍ وثورة من جميل؟.

avata
avata
ياسر الأطرش (سورية)
ياسر الأطرش (سورية)