البرازيل إلى حقبة جديدة

البرازيل إلى حقبة جديدة

12 نوفمبر 2018

بولسونارو يحيي أنصارا له في ريو دي جانيرو(28/10/2018/فرانس برس)

+ الخط -
عندما غادر لويس إيناسيو لولا داسيلفا، في العام 2011، منصبه رئيسا للبرازيل، بعد ولايتين، كانت شعبيته في القمّة، 80% من البرازيليين يعلنون تأييدهم لسياسته. وقد صنف المهتمون بقضايا أميركا اللاتينية هذا اليساري من حزب العمال واحدا من القادة الملهِمين الذين حاولوا أن يقدّموا لشعوبهم حياة كريمة. لم يكن ذلك سهلا في عالم متموجٍ ورمال اقتصادية متحرّكة، لا يمكن النجاة منها إلا بأفكار مبتكرةٍ، خصوصا في مجالات محاربة الفقر وتقليص الفوارق الاجتماعية والسعي إلى توزيع عادل، ما أمكن، للثروة الوطنية. وعلى غرار الصين، لم يهمل لولا ضرورة الاستفادة من الإمكانات التي يتيحها اقتصاد السوق في ما يتعلق بجذب الاستثمارات ورؤوس الأموال عموما، والتركيز على تنمية الاقتصاد في جانبه الموجّه إلى التصدير، لتعزيز مكانة البرازيل، باعتبارها إحدى أكبر الاقتصادات الناشئة.
بالنظر إلى هذه الوضعية القوية التي أصبحت فيها البرازيل، اقتصاديا واجتماعيا، لم يكن حزب العمال ليخسر انتخابات 2010، بل على العكس، كانت الطريق معبّدة أمام ديلما روسيف لخلافة لولا داسيلفا، من أجل تعزيز ما تم بناؤه منذ 2003، لكنها واجهت صعوباتٍ جمّةً في سعيها إلى الحفاظ على إرث سلفها.


بطالة وتضخم وقضايا فساد

كانت آثار الأزمة قوية. مع انهيار أسعار المواد الأولية الفلاحية والمعدنية والنفطية التي تشكل أهم صادرات البلاد، وحدة الصعوبات التي يعاني منها شركاؤها التجاريون، وفي مقدمهم الصين والولايات المتحدة، بالإضافة إلى ألمانيا والأرجنتين وكوريا الجنوبية، تراجع الميزان التجاري، وانخفضت المبادلات البرازيلية مع بقية العالم بنحو 11% سنة 2016 مقارنة مع سنة 2015. وبالإضافة إلى ذلك، بدأت السياسات الاجتماعية التي اعتمدها لولا في التراجع، بسبب ارتفاع المديونية وعودة التضخم بأرقام غير مسبوقة، وصلت بالنسبة للمواد الغذائية إلى 13%، والبطالة بالتزامن مع انخفاض نسبة النمو التي تراجعت من 7% سنة 2010 إلى 2.7 سنة 2011 إلى 0.9 سنة 2012، لينتهي بذلك ما يطلق عليه المهتمون بالشأن البرازيلي وهم المعجزة الاقتصادية. وقد تمخضت هذه الوضعية الجديدة عن مظاهراتٍ حاشدةٍ للاحتجاج على الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية المتدهورة، وعلى تفاقم الجريمة. وبتضافر ذلك مع إثارة قضايا فساد ضد الرئيس السابق، وضد ديلما روسيف نفسها، وضد أعضاء آخرين في حزب العمال، أنهى مجلس الشيوخ حقبة حكم اليسار بعزل الأخيرة بعد نحو سنة ونصف من إعادة انتخابها لولاية ثانية، في العام 2016.
وعلى الرغم من المرافعات الكثيرة التي تتحدّث عن انقلاب دستوري، وعن مؤامرات سياسية وتصفية حسابات، اعتبارا لدور رجال الأعمال وكبار الأثرياء والسياسيين اليمينيين في الأحداث، لم يتغير الواقع. لقد انتهت حقبةٌ من حكم اليسار على امتداد ثلاثة عشر عاما. وبالنظر إلى تطور الأمور بشكل سيئ، والعجز عن إيجاد الحلول الضرورية التي تدفع الشارع إلى الهدوء، فربما تكون تلك الكلمة التي يردّدها محللون سياسيون واقتصاديون صحيحة في الحالة البرازيلية، إن اليسار يتعب ويفقد قدرته على الابتكار عندما يمكث طويلا في السلطة!
بيد أن حصيلة هذا المكوث الطويل في السلطة، بتأملها جيدا، لم تكن كلها سيئة، خصوصا على عهد لولا. نجا نحو ثلاثين مليون شخص، بفضل البرامج الاجتماعية المبتكرة، من الفقر المدقع، وهو ما يمثل أكثر من ربع عدد السكان الحاليين (حوالي 207 ملايين نسمة). بل أكثر من ذلك، توسعت الطبقة المتوسطة التي تشكل المحرّك الأساسي للحياتين، السياسية والاقتصادية. أيضا، تمّ إيجاد أزيد من 16 مليون منصب شغل، مع الزيادة في الحد الأدنى للأجور بنسبة فاقت 60%، مع ما يعنيه ذلك من رفع للقدرة الشرائية، وتشجيع الطلب الداخلي والاستهلاك، وهي نقطة محورية في سياسات لولا وفريقه، وكان على فريق ديلما أن يعزّزها. وساهمت هذه النقطة بالتحديد في ضمان أن يكون تأثير الأزمة العالمية على الاقتصاد البرازيلي خفيفا نسبيا. 
وقد جعل ذلك كله من البرازيل دولة ناشئة قوية، بل سادس قوة اقتصادية في العالم في العام 2012، وباتت مركزَ ثقل في مجموعة العشرين، وأصبح صوتُها عاليا في المطالبة بإصلاح المؤسسات المالية الدولية، خصوصا صندوق النقد الدولي، وضمان حضور أقوى للدول الناشئة في اتخاذ القرارات دخل هذه المؤسسات.
هذه الحصيلة الإيجابية قوّضتها أكثر قضايا الفساد المثارة ضد رموز حزب العمال، بالتزامن مع التراجع الذي سجلته نسب النمو منذ العام 2014، وساهم فيه، كما سبق، انخفاض أسعار المواد الأولية، بالإضافة إلى ضعف الاستثمارات الخارجية، نتيجة الانفتاح المحدود على العالم في هذا المجال، وأعباء تنظيم كأس العالم والألعاب الأولمبية. وضعية جعلتْ مكانة الحزب الحاكم تهتز لدى الرأي العام البرازيلي، خصوصا مع الإجراءات التقشفية التي لم يكن منها بدّ، وفَسحتْ المجال لصعود تيارات اليمين واليمين المتطرّف، وانتهى الأمر بحمل جايير بولسونارو على الأكتاف، ليكون رئيسا جديدا للبلاد. 

ملفات أمام بولسونارو
كان بولسونارو عسكريا سابقا، ويوصف، من بين صفاتٍ أخرى، بأنه يحنّ إلى عهد الديكتاتورية العسكرية. ستكون على طاولته ملفات عديدة عليه حلها لكسب مزيدٍ من الثقة لدى البرازيليين الذين سيقارنون دائما راهنَهم مع سنوات حكم اليسار. يتمثل أول هذه الملفات في تخليص البلاد من تنامي العنف والجريمة، ومن الأعباء الاقتصادية المترتبة عن ذلك. فقد ذكرت دراسة، نشرت خلال العام 2014، أن العنف في المجتمع البرازيلي كلف في العام 2013 ما يعادل 5.5% من الناتج الداخلي الإجمالي، بنفقات بلغت أكثر من 81 مليار يورو، معظمها لإصلاح آثار الجرائم، خصوصا ما يتعلق منها بجرائم القتل، وهي جرائم يصل عددها في المعدل، حسب الدراسة، إلى 45000 جريمة قتل سنويا. وتعود هذه الأرقام إلى ما قبل خمس سنوات، لأن البرازيل أصبحت في العام 2018 في المرتبة العاشرة عالميا على مستوى العنف والجريمة بـ64000 جريمة قتل سنة 2017، ما يعني استثماراتٍ إضافيةً في المجال الأمني، سواء بالنسبة للموارد البشرية أو الأسلحة والعتاد اللوجيستي. ورؤية بولسونارو لهذا الملف واضحة، وهي إشراك المواطنين في التخفيف من الكلفة الاجتماعية للعنف، ذات الانعكاسات الاقتصادية. ولذلك من المحتمل أن يعمل على توسيع دائرة حمَلة السلاح، بتخفيف القوانين المتعلقة بمراقبة حيازة المواطنين على الأسلحة من أجل الدفاع عن أنفسهم، وهي نقطة أساسية في برنامجه الانتخابي.
ثاني الملفات هو التحكّم في المديونية المرتفعة، المتوقع أن تصل، مع نهاية العام 2018، إلى أكثر من 87% من الناتج الداخلي الإجمالي، وتقليص العجز المتراكم الذي بلغ في العام 2017 نسبة 7.2%، ومرشح للارتفاع خلال العام الجاري إلى 8.4% من الناتج الداخلي الإجمالي. الوصفة الجاهزة التي من المنتظر أن يشتغل عليها الرئيس الجديد، بمعية مستشاره الاقتصادي، ووزير الاقتصاد المتوقع باولو كوديس، هي إطلاق موجة خصخصة واسعة لعدد من المنشآت التابعة للدولة لضخ مداخيل إضافية في الميزانية العامة التي تعاني من عبئين أساسيين، أولهما خدمة الديْن التي استنزفت في العام 2016 ما يناهز 16% من الميزانية في أداء الفوائد، وثانيهما الخدمات الاجتماعية، المتمثلة أساسا في التحويلات الموجهة إلى صناديق التقاعد، وهو ما يعني إعادة النظر في نظام التقاعد الحالي. لهذا، يشكّل إصلاح التقاعد نقطة مركزية في برنامج بولسونارو، وستضعه في مواجهة النقابات والحركات الاجتماعية، كما هو الشأن في دول أخرى كثيرة، وجدت نفسها مضطرة للرفع من سن التقاعد، ومراجعة قاعدة احتساب المعاش وإجراءات أخرى. وحسب أرقام نشرتها منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية، انتقلت حصة نفقات التقاعد في النفقات العمومية في البرازيل من 4.6% سنة 1995 إلى 12% سنة 2018، ومن المتوقع أن تصل إلى 17% في أفق 2060، إذا بقي الوضع على ما هو عليه من دون مبادرة للإصلاح.

ينطوي العمل على استعادة التوازنات المالية، من خلال الخصخصة وإصلاح التقاعد، في الغالب، على تضحيةٍ بالجانب الاجتماعي، وهو ما يؤجج الاصطدام بين السلطة والسكان الذين يجدون أنفسهم يدفعون ثمن سياساتٍ لم تراع أوضاعهم. بيد أن هذه الحقيقة قد لا تعني الكثير للرئيس الجديد الذي يُعتبر، في نظر المهتمين بالشأن البرازيلي، أحد معتنقي عقيدة العلاج بالصدمة. بل إنه سيجد نفسه يذهب إلى أبعد من ذلك، مع فريقه الاقتصادي، بمحو كل آثار حقبة اليسار منذ 2003. وهذا معناه أنه، بالإضافة إلى ما سبق، سيدفع البرازيل إلى مزيد من الانفتاح على الاقتصاد العالمي، أي إلى الانخراط أكثر في اقتصادٍ معولمٍ من خلال تخفيف القوانين والمساطر المتعلقة على الخصوص بالتجارة الدولية، وبدخول رؤوس الأموال والاستثمارات وخروجها، وبما في ذلك، أيضا، مراجعة بعض بنود قانون الشغل، باتجاه مرونة لصالح المشغلين في علاقتهم بالعمال.
وبينما سيكون بولسونارو بصدد تنفيذ برنامجه من خلال المحاور السالفة، فإن من المفارقات التي سترافق وصوله إلى الرئاسة أن بعضهم يرى فيه "ترامب البرازيل"، إلا أن توجهات الرجلين تبدوان، على الأقل ظاهريا، متناقضة. ففي الوقت الذي يسعى فيه الرئيس الأميركي دونالد ترامب، مثلا، إلى مزيد من حماية الاقتصاد الأميركي ووظائف الأميركيين، بفرض إجراءات غير مسبوقة على حركة البضائع والأموال والمهاجرين، سيكون على الرئيس البرازيلي الانفتاح أكثر على التجارة الدولية وعلى الاستثمارات الأجنبية، وهو الأمر الذي على الرغم من جوانبه الإيجابية، ينطوي كذلك على مخاطر، أقلها ارتجاج اقتصاد البلاد عند أي أزمة عالمية جديدة.
وبعد، مهما يكن التأويل الممكن لتخلي البرازيليين عن مرشّح اليسار، فإن انتخاب يميني متطرّف على رأس البلاد، لا يكاد يخرج عن السياق العام في العالم كله تقريبا، وإن كان أكثر وضوحا في الديمقراطيات الغربية. سياقٌ يميّزه صعودٌ متنامٍ للتيارات اليمينية التي تقدّم نفسها بديلا لقوى الوسط واليسار التي تنظر إليها باعتبارها المسؤول المباشر عن الأزمة الاجتماعية والاقتصادية التي تعاني منها بلدانها. وفي الحالة البرازيلية، تبدو قضايا الفساد المرفوعة ضد المسؤولين السابقين، وأيضا ضد باولو كوديس، الذراع اليمنى الاقتصادي لبولسونارو، بمثابة المسمار الأخير في نعش الساسة في البلاد، يمينا ويسارا. بالركوب عليها يصلون إلى الحكم، وبسببها قد يسقطون. فهل سيبقى الرئيس الجديد في الحكم إلى نهاية ولايته؟
DEFEC5E5-924F-408F-B2DE-568E2C7F805A
DEFEC5E5-924F-408F-B2DE-568E2C7F805A
جمال الموساوي

كاتب وشاعر وصحافي مغربي، إجازة في العلوم الاقتصادية، من إصداراته كتاب "صراع الاقتصاد والسياسة: تأملات في مشهد عالمي مضطرب".

جمال الموساوي