الأردن.. طائفية المقدّس وقداسة الطائفية

الأردن.. طائفية المقدّس وقداسة الطائفية

26 فبراير 2015
بدأ خطاب الطائفية يلقى استجابات مؤسفة في الأردن
+ الخط -

إن الحديث عن ارتباط الطائفية بالتعليم الديني يستحضر إلى الذهن المثلث الأنثربولوجي الشهير لدى محمد أركون: المقدَّس، والحقيقة، والعنف. حيث يرى أن المقدَّس الذي يكرَّس كحقيقة بوسائل عديدة منها التعليم، يشرّع ممارسة العنف تجاه أي مساس بالمقدَّس/الحقيقة. ولعلّ اختيار صيغة اسم المفعول لكلمة المقدَّس لم تكن اعتباطا، حيث إن قدسية المقدَّس ليست أصلا فيه، بل مخلوعة عليه، وكذا الأمر بالنسبة للحقيقة المقترنة بالمقدَّس، على الأقل في هذا الإطار المنظور. وبهذا تختلف المقدسات والحقائق بين الطوائف الدينية، فكل القراءات المذهبية للدين تقف على حد سواء، لتأتي عوامل أخرى ترفع إحداها في سياق زماني مكاني إلى مرتبة القداسة، وتجعل الرؤى المخالفة باطلا بواحا، كما يرى أدونيس في "الثابت والمتحول".

وقد يقال إن المقدَّس صار مقدسا لأنه حقيقة، وليس العكس، وهذا ربما ممكن، لكن العمدة في هذا الطرح ليست محض بنية المقدّس الصرفية، بل إن استقراء الواقع التعليمي الديني في النموذج الأردني مثلا يشي بهذا. فالشريحة الكبرى لممثلي المقدَّس الديني في الأردن هي شريحة معلمي التربية الدينية وأئمة المساجد، وأغلبهم حاصل على بكالوريوس من كلية الشريعة، أي أن أربع سنوات فقط جعلت منهم رسلا "للحقيقة الدينية"! ولا يختلف الأمر كثيرا في التعليم الجامعي، حيث تقدم وجهات النظر المخالفة طائفيا أو دينيا أو أيديولوجيا بافتراض بطلانها مسبقا، لا باعتبارها مجالا للدراسة الموضوعية المحايدة. يرافق هذا اختزال مسطَّح مسطِّح، إن لم يكن مغلوطا، لآراء المخالفين، لا يخلو من خطاب كراهية. فالمذهب الشيعي مثلا يقدم على أنه مذهب شتم الصحابة والطعن في عرض أمهات المؤمنين وزواج المتعة، والمسيحية محض انحراف عن رسالة سماوية، والعلمانية أيديولوجيا لهدم الدين ونشر الإباحية، والماركسية هي نكران الخالق والإيمان بالمادة. فإذا كان الآخر يقدَّم ابتداء كباطل وكخصم بصورة مختزلة مسخية، كيف سيكون الحكم عليه بالباطل صحيحا، وما هي الضمانة أن تكون القراءة الطائفية المعتمدة كمقدَّس حقا وصوابا؟

أما مناهج التعليم، فتحفل بخطاب الكراهية، من نص على قتل المرتد، وأحكام أهل الذمة التي تجعلهم مواطنين من الدرجة الثانية، فضلا عن قوانين الرقّ، وغير ذلك مما لا مجال لتفصيله.

إلى جانب هذا نجد البيئة التعليمية حاضنة لهذه الأفكار الطائفية، على سبيل المثال تجد في كلية الشريعة في الجامعة الأردنية تكريما لأحد رموز الجهاديين بإطلاق اسمه على مصلى الكلية الرئيس، وتجد طلبة في الجامعة الأردنية قبل أشهر قليلة يقيمون صلاة الغائب على أحد مقاتلي جبهة النصرة ذات النزعة الطائفية الموغلة في التطرف من دون أن تحرك إدارة الجامعة ساكنا. فضلا عن خطاب الكراهية الطائفي الذي يبثه أحد أعضاء هيئة التدريس في كلية الشريعة في الجامعة نفسها عبر صفحته الشخصية على أحد مواقع التواصل الاجتماعي، خطاب لم يسلم منه شيعة ولا علمانيون ولا يسوع الشخصية الدينية الاعتبارية حتى في الإسلام، من دون أن تلقى هذه الممارسات أي تحرك جديّ.

ويأتي في إطار التعليم الديني الجمعيات الدينية "الخيرية"، التي تدير حلقات دراسية دينية لكافة الأعمار والنشء الصغير خاصة، التي لا تخضع لأي رقابة رسمية، والتي تستغل حاجة الفقراء والمعوزين لنشر أفكارها الخاصة وشراء أصوات المحتاجين في الانتخابات، حيث يكون حجب المساعدة المالية أو العينية عقابا لكل من يخرج عن مرادها.

إن خطاب الطائفية بدأ يلقى استجابات مؤسفة في الأردن، سواء معنويا كإدانة زيارة الوزير السابق الدكتور محمد نوح القضاة لأضرحة آل البيت في العراق، أو فعليا بإحراق بيت أحد أبناء طائفة البهرة الشيعية في الكرك، والاحتجاج على مشاريع بناء فندق لزوار ضريح جعفر الطيار أو حسينية وفق ما يقوله بعضهم.

لا بدّ إذاً من وقفة حقيقية تجاه التيار القائل باحتكار الحقيقة المقدّسة وخطاب الكراهية في مؤسساتنا التعليمية من دور عبادة ومدارس وجامعات ووسائل إعلام، مع ضرورة التدخل الجدّي للنخب الثقافية لتكريس خطاب سمح بنّاء مكان خطاب الكراهية، وتدخل رسمي عاجل لمنع انحدار الوضع إلى ما لا يحمد عقباه.


(الأردن)

المساهمون