اشتعال بيروت

06 يناير 2015

ألعاب نارية في سماء بيروت رأس السنة (1 يناير/ديسمبر/أ.ف.ب)

+ الخط -

عند منتصف الليل تماما، في اللحظة التي انقلبت فيها الأرقام، لتنقلنا من تاريخ 31 ديسمبر/كانون الأول 2014 إلى 1 يناير/كانون الثاني 2015، اشتعلت بيروت! اشتعلت بالمعنى شبه الحرفي للكلمة، بالألعاب النارية على أنواعها، وبالرصاص الحقيقي والخطّاط، حتى إن المدينة التي ما زالت تعاني إلى اليوم من تقنين الكهرباء، منذ ابتداء حروبها الأهلية وغير الأهلية في العام 1975، أضاءت دقائق طويلة في كل المناطق والأحياء.
أشعل اللبنانيون الألعاب النارية، وفرقعوا وأطلقوا الرصاص، كما لم يفعلوا من قبل. هكذا رأينا وشعرنا، نحن الذين اجتمعنا على الشرفة المطلّة الكاشفة، حين قارنّا أعياد رأس السنة الفائتة بالعيد الجاري اللحظة أمام أعيننا. قلنا إن في هذا الزخم المجنون تعبيرات تعدو فرحة الاحتفال البريئة بانصرام عام وقدوم آخر جديد. قلنا إنه أشبه بصرخةٍ، بالفم الملآن لملايين الأفواه، صرخة تريد إعلام العالم بأننا ما زلنا هنا، أحياء وراغبين، على الرغم من كل شيء، بالحياة. إنه نداء استغاثة لشعب غارقٍ تحت ركام القهر والمذلة والفساد، مهانٍ حتى في لقمة عيشه، حيث يختلط قوته بالمواد الفاسدة وتتقاسم خبزَه الجرذان. هناك في ما يجري في لبنان، الآن، وسابقا، ما يصيب الروح بالغثيان، غثيان من الكلام الزائف المعلوك، المكرّر كشريط يدور على ضجيج وفراغ، ومن اليقين أن لا نهاية لذاك النفق المظلم، الطويل، الذي يعدوننا منذ دهر بإخراجنا منه.
فرقع اللبنانيون ملء جفونهم وأيديهم وجيوبهم، احتفالاً بانسداد نفق حياتهم. أطلقوا سهامهم الوهمية، ورصاصهم غير الوهمي، نحو السماء، لعل هناك من يسمع وعسى من يستجيب، ثم شربوا ورقصوا وتعانقوا، وهم يتبادلون الأماني والقبلات، وهم يتراشقون بابتسامات منقبضة، منكسرة، تفضح خشيتهم من استمرار عذاباتهم الصغرى والكبرى، لا بل قناعتهم باستمرارها، فيما هم يستمعون إلى تنبؤات العرّافين، تتتالى على الشاشات الصغيرة، وهي تعد الشعب اللبناني بالأسوأ، وتبشّره بأن الآتي أعظم. ماغي فرح التي تبلغ مبيعات كتبها كل عام أرقاماً قياسية، قالت إن "كرة اللهب تتوسع"، مشيرة إلى خضّات وانقلابات وحروب، إضافةً إلى فيروسات وأوبئة تزرع الرعب بين الناس. وليلى عبد اللطيف التي خُصّص لها برنامج شهري، على إحدى أهم الأقنية التلفزيونية اللبنانية، طمأنتنا إلى أن بيروت ستهتز 3 مرات على الأقل جراء أحداث مهمة، وأن مياه البحر هي مصدر الخوف الوحيد عند اللبنانيين. أما ميشال حايك، الأقدم والأشهر في مجال إطلاق التوقعات، فقد تنبأ أننا سنرى داعش في لبنان، لكن بشكل لا يشبه داعش العراق وسورية، وأن الداعشيين السياح سينفقون أموالاً كثيرة في لبنان! هذا ولا ننسى مايك فغالي وسمير طنب، وسواهما من المتنبئين الذين يُبقون اللبنانيين في كل نهاية عام، فاغري الفم، صاغري الأعين أمام الشاشات الصغيرة، فيما هم يصنعون ما سيأتي علينا من السنوات العجاف والسمان على السواء.
ما بين احتفالنا اليائس المستغيث، الخائف أن يكون هذا آخر احتفال لنا، والتنبؤات القاتمة السوداء للقارئين والرائين الذين باتوا مرجعنا، بعد أن فقد كلام السياسة كل معانيه، ظهرت المغنية مادونا، العائدة في ثوب شجرة الميلاد، وهي تضيء وتنطفئ، مطمئنة إيّانا أن عناصر من الدفاع المدني رافقتها إلى الأستوديو خوفاً من اشتعال ثوبها وحدوث حريق...
صباحاً، في اليوم الأول من العام الجديد، كان الطقس مشمساً، والهواء ربيعياً، كما تجيد بيروت أن تفعل أحيانا، في عزّ فصل الشتاء. أمسكت بيد ابنتي، وخرجنا لنتنزه في طرقات امتلأت أرضياتها بشظايا الزجاج الذي ألقي من الشرفات، كسراً للشرّ واسترعاءً لانتباه الحظ وخيراته، وبفراغات الرصاص الحيّ وآثار الحرائق الصغيرة والمفرقعات. كان منظر المدينة خامداً، وادعاً، وقد انتهت الاحتفالات في بيروت التي لا تني تستقبل الحياة وتعانقها، في كل مرة، وفي كل مناسبة، عناق الوداع.


 

نجوى بركات
نجوى بركات
كاتبة وروائية لبنانية ومؤسسة محترف "كيف تكتب رواية"