استفتاء شرق أوكرانيا بين "مهزلة" التنظيم والأمر الواقع الروسي

استفتاء شرق أوكرانيا بين "مهزلة" التنظيم والأمر الواقع الروسي

11 مايو 2014
هذه الجمهوريات ستظل جزءاً من أوكرانيا (أسوشيتد برس)
+ الخط -

في ظل وضع محتدم ومنذر بما لا تحمد عقباه، تعيشه جمهورية أوكرانيا، ومع انزلاق روسي وأميركي متواصل في الصّراع، تبقى كل الاحتمالات، في غياب رؤية سياسية مُتَّفَق عليها ومُتفَاوَض حولها، واردة في هذا البلد. ولم يعُدْ يخفى على أحد النفوذ الروسي المتنامي في الأقاليم الشرقية من أوكرانيا، والذي يمنحه انتشار القوات الروسية ومناوراتها المتعددة على الحدود صدى أكبر. وأما من جهة الحكومة المؤقتة وحلفائها الغربيين وخاصة الأميركيين، فقد كان آخر الانزلاقات في الأزمة ما أكدته، اليومَ، صحيفة ألمانية (بيلد أم سونتاغ) عن تواجد مئات من المرتزقة الأميركيين يُقاتلون إلى جانب القوات النظامية الأوكرانية في شرق البلاد. وتذهب الصحيفة الألمانية إلى أن هؤلاء المرتزقة ينتمون إلى منظمة "أكاديمي"، التي كانت معروفة في السابق بـ"بلاك ووتر"، والتي اشتهرت بدعمها للجيش الأميركي في العراق، وبارتكابها لجرائم رهيبة ضدّ المدنيين العراقيين. ولكن السؤال الذي لا تجيب عنه الصحيفة يتمثل في تحديد المسؤول عن هذه الاتفاق للتدخل في أوكرانيا.

هذه ليست المرة الأولى التي يظهر فيها دليل على الانخراط الأميركي في الصراع الأوكراني، فقد كشفت نفس الصحيفة الأسبوعية الألمانية، الأسبوع الماضي، عن وجود عملاء من الاستخبارات الأميركية "سي أي إي"، وأيضاً من الشرطة الفيدرالية الأميركية "إف بي آي" يُقدمون المساعدة للسلطات الأوكرانية من أجل وضع تدابير أمن فعّال في البلد.

في هذه الأجواء السيئة من التوتر ومن بدايات الحرب الأهلية ومن النزعات الانفصالية التي تزداد كل يوم، دعا أنصار الفيدرالية في أوكرانيا ما يقرب من 7 ملايين مواطن من بين مجموع سكان البلد الـبالغين 45 مليون نسمة إلى استفتاء في المناطق التي يسيطر مسلحون متمردون، وتغيب فيها سلطة كييف لتحديد شكل العلاقة المستقبلية بين هذه المناطق وبين السلطة المركزية.

وعبثاً وصف النظام والغربيون، وخصوصاً الأميركيون، هذا الاستفتاء بالمهزلة، وبأنه لا قيمة له وأنه لا شرعي ولا قانوني. وهو ذات الوصف الذي أطلقه الغربيون ونظام كييف الانتقالي على استفتاء سكان شبه جزيرة القرم، ولكن النتيجة ماثلة، اليومَ، أمام أعين الجميع، وهي أن روسيا فرضت الأمر الواقع، بل وحضر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين شخصياً إلى شبه جزيرة القرم، لتكريس هذا الواقع الجديد. فهل يحتاج الغرب لمثال أكثر بلاغة من هذا، حتى يُدرِكَ نوايا الروس واستراتيجيتهم الخفية؟!

إن مسلسل انتقام بوتين من الجمهوريات البلطيقية التي استقلت عن الهيمنة الروسية مُتواصلٌ ولم يعرف الكلل، وذلك باللعب على وَتَر الأقليات الروسية، وجاء الدور على مولدافيا، حيث أعلنت القيادة الروسية تلقّيها توقيعات من سكان جمهورية "بريدنيستروفييه" في مولدافيا، يريد فيها هؤلاء السكان اللحاق بشبه جزيرة القرم في الانضمام لروسيا الاتحادية. وهو ما يعتبره المراقبون قوة إزعاج كبيرة في كل الدول الأوروبية التي تضم أقليات روسية.

لقد وعد الانفصاليون بتنظيم هذا الاستفتاء، وها هم ينفذونه على الرغم من استمرار العنف. وإن ما كان يُتصوَّرُ على أنه نوعٌ من "البروباغاندا" للمُوالين لروسيا، أصبح أمراً واقعاً. وعلى الرغم من "النصيحة" الدبلوماسية، التي لم يُصدِّقْها أحدٌ، للرئيس بوتين لهم، عند استقباله للرئيس السويسري، بتأجيل هذا الاستحقاق، وليس إلغائه، قرّروا المضي فيه حتى النهاية.

ولعل تبرير تمرّد هذه القيادات الانفصالية في الشرق، التي تشتغل في تنسيق مع الاستخبارات الروسية، على طلب بوتين بالتأجيل، تجد تفسيرَها في رأسمال الحماس الكبير الذي رافق الإعلان عن هذا الاستفتاء من قبل أغلبية سكان هذه المناطق التي تعرضت لإهمال كبير من طرف كييف، إضافة إلى أنّه ليس من الوارد التفاوض مع الحكومة الأوكرانية المؤقتة في الوقت الذي تخوض فيه هذه الحكومة "حرب إبادة" ضدهم (كما يقولون)، وبعدما سالت دماء كثيرة.

والشرخ كبيرٌ فعلاً بين سكان هذه المناطق من الشرق الأوكراني وسكان كييف والمناطق الغربية؛ ففي هذه المناطق المتمردة اتخذت احتفالات الانتصار على النازية في الحرب الكونية الثانية شكلَ "تلويح بالأعلام السوفييتية، وسط شعارات تصف السلطات المؤقتة في كييف بالنازية".

وعلى الرغم من هذا الجوّ من القطيعة، وهذا الحماس من قبل الانفصاليين، فإن روسيا الاتحادية لا تريد التصعيد إلى نقطة اللاعودة. وهي ما فتئت تطالب بمفاوضات بين كييف ومواطنيها في الشرق. وفي كلّ مرة يتحدث فيها بوتين أو أحد وزرائه إلا ويؤكد على ضرورة تطبيق نظام فيدرالي في البلد يُراعي كل الحساسيات. وهو ما يعني في حال تطبيقه، منع أوكرانيا من أن تصبح عضواً في الاتحاد الأوروبي أو حلف شمال الأطلسي (الناتو). أي أن تكون بلداً محايداً، بين الغرب وروسيا.

ومن هنا فهم السؤال الذي طُرحِ على المصوّتين والذي يُخاطِب الناخب: "هل تُدعِّمُ إعلان السيادة للجمهورية الشعبية في دونتسك؟"

لا يتعلق الأمر هنا بالاستقلال. أي لِحدّ الساعة. وإذا ما كان الجواب بنعم هو الفائز (وهو الراجح) فإن هذه الجمهوريات "ذات السيادة" ستظل جزءاً من أوكرانيا، مع احتفاظها، لاحقاً، بحق الارتباط بروسيا الفيدرالية، إذا لم تقم أوكرانيا بإصلاحات مهمة.

ولكن إذا اختارت النخبة الحاكمة في أوكرانيا والموالية للغرب، المضيّ قُدُما في نهج الحل العسكري، فإن هذه المناطق ستعلن استقلالها عن كييف، في المرحلة الأولى، وتطلب دعم "الأخ الأكبر"، روسيا الاتحادية، في المرحلة الثانية، وهو ما يعني الالتحاق بالفيدرالية الروسية.

تدرك كييف هذه الحقيقة، ولهذا فالخيارات الموجودة بين يديها غيرُ كثيرة. وإلى أن ينتصر خيارٌ على آخَر، سيتواصل شلال الدمّ، خصوصاً مع ظهور فاعلين أجانب في أرض المعركة. وهنا يجب أخذ تهديدات المتحمسين لاستقلال هذه المناطق عن كييف مأخذ الجدّ، حينما يَستَحضرون "المثال اليوغوسلافي"، ويعلنون استعدادهم لتطبيقه في أوكرانيا إن اقتضى الأمر.