اجتماع الرياض الخليجي يجترح المعادلة المناسبة

26 ابريل 2014
+ الخط -

 يتفاءل المرء باتفاق وزراء خارجية دول مجلس التعاون الخليجي، في الرياض، أخيراً (17 ابريل/نيسان الجاري)، من أجل وضع حد للأزمة الخليجية. وهو اتفاق لم يحلّ أوجه الخلاف، لكنه وضع مقدماتٍ وأسساً للحل. وهذا ما يفسر التقديرات المتفائلة في الكويت، الدولة التي نشطت على أعلى مستوى لتطويق الخلاف، ثم من دولة الإمارات. وقد عكس الاتفاق إرادةً سياسيةً جامعةً بالتوصل إلى حل، وثمة لجنة وزارية جرى تشكيلها في الاجتماع للمتابعة، ستعرض نتائج عملها في تقريرٍ مفصلٍ في اجتماع وزاري في الشهر المقبل.
في واقع الأمر، يعد التئام الاجتماع الوزاري في الرياض، بحضور جميع الأعضاء، تطوراً جيداً بحد ذاته، وكذلك الاتفاق على أن دول المجلس ستبدأ إجراءات تنفيذ آلية وثيقة الرياض، في اجتماعاتٍ تعقد في مقر الأمانة العامة، من أجل تسوية المسائل الخلافية كافة.


هما أمران يُسجّلان في خانة التقدم على طريق حل الأزمة، وهي أزمة متعددة الأوجه، يتعلق بعضها باصطدامٍ بين تقاليد سياسية موروثة وتطلعات مستقبلية، فإذ تسود علاقات احترام بين دول مجلس التعاون، وبينما لا تمييز هناك بين هذه الدول على أي صعيد، ووفق أي مفهوم، فإن بعض الدول توصف، في الوقت نفسه، سراً وجهراً، أحياناً، بأنها "صغيرة"، إلى درجة أن حاكمين في مثل هذه الدول، ومن باب التواضع، يصفون دولهم بأنها صغيرة (!). على أنه، إذ يتعين ألّا تترتب على ذلك مفاعيل سياسية، فإن الأثر السيكولوجي يفعل فعله، ويغدو، في بعض الحالات، العامل الفاعل. وفي منعرجاتٍ سابقة، في تاريخ العلاقات بين دول "التعاون"، طفت على السطح، لا ذهنية الدولة الكبيرة والأخرى الصغيرة فحسب، بل، أيضاً، ذهنية الدولة الكبيرة القادرة مالياً والدولة الكبيرة غير العضو في "أوبك" (منظمة الدول المصدرة للنفط). وذلك يكمن كخلفية لسياساتٍ متبعة، أو لذهنيةٍ سياسية، على الرغم من أنه يُحسب لمجلس التعاون عدم فرض آراء وتوجهات من دولة معينة، وقد جرى، على الدوام، احترام مبدأ التساوي بين الأعضاء في اتخاذ القرارات.

برلمان خليجي منشود

الواقع الاجتماعي القبلي في دول المجلس، وتمثيل القبائل والعائلات الكبيرة في مراكز التمثيل (مجالس الشورى وأحيانا البلديات) وفي مراكز القرار، فضلاً عن القوة المالية لهذه التشكيلات الاجتماعية، انعكس، بدوره، على تركيب الأنظمة السياسية، وعلى رؤاها لحل الخلافات بينها، كما لحل المشكلات داخل دولها. وعليه، فإن تحدّي إرساء الدولة العصرية، بالتدريج طبعاً، يمثل تحدياً إيجابياً لتطويق الخلافات في المستقبل، وللمضي على طريق التقدم والتجديد في سائر المناحي. 
يتساءل المرء، هنا، تساؤلاً نظرياً: ماذا لو أن "البرلمان الخليجي" عقد جلساتٍ مفتوحةً، بحضور الغالبية العظمى من أعضائه، للنظر في الأزمة الخليجية التي أدت، أو الناجمة عن سحب سفراء ثلاث دول، هي السعودية والإمارات والبحرين، من الدوحة، واتخذ في نهاية الانعقاد المفتوح قراراتٍ مناسبةً تحفظ وحدة الصف الخليجي، وتعزز وحدة مجلس التعاون، وتضمن مصالح شعوب المنطقة ودولها؟
تساؤل نظري يعكس قدراً من التطلعات المستقبلية، بأكثر مما يجسّد واقعاً قائماً، فبين مؤسسات مجلس التعاون لا وجود لمؤسسة البرلمان الخليجي. هناك مجلس تشريعي في دولتين، الكويت والبحرين، ومجلس أكثر من استشاري وأقل من تشريعي في سلطنة عمان، يصل أعضاؤه إلى مقاعدهم بما هو بين التعيين والانتخاب: بالاختيار. بدلاً من هذه المؤسسة التشريعية الجامعة (البرلمان المنشود)، فإن الخلافات تُبحث فقط على مستوى ثنائي غالباً بين الدول الست، أو في اجتماعات القمة لمجلس التعاون والاجتماعات الوزارية، ولا دور للمجالس التمثيلية في معالجة الخلافات، وقبل ذلك، في تعزيز فرص التعاون. ثمة هيئة استشارية للمجلس الأعلى لمجلس التعاون، نشأت في عام 1998، تنظر في قضايا بعينها تُطرح عليه، ولا يُناقش قضايا غير محالة عليه.
"تتكون الهيئة من ثلاثين عضواً، بواقع خمسة أعضاء من كل دولة، وتختار سنوياً رئيساً لها من بين ممثلي الدولـة التي تترأس دورة المجلس الأعلى، ونائباً للرئيس من بين ممثلي الدولة التي تليها في الترتيب، ولا تناقش الهيئة من الأمور، إلا ما يُحال إليها من قبل المجلس الأعلى. ويعاون الهيئة جهاز إداري، يرتبط بالأمانة العامة لمجلس التعاون، هو مكتب شؤون الهيئة الاستشارية في مسقط".

أزمات سابقة

وهناك قوام نظري لهيئة تسوية المنازعات، تتبع المجلس الأعلى (أعلى سلطة في المجلس)، يشكلها المجلس الأعلى في كل حالةٍ، "حسب طبيعة الخلاف"، كما يقضي النظام الأساسي، وبالتالي، هي هيئة مؤقتة، يجري تشكيلها وحلها في كل مرة، حسب الحاجة والتوجهات. وغني عن القول إنه لم يبد لها أثر، أو وجود، في الأزمة الأخيرة. ويعكس هذا النقص المؤسسي إرجاءً لتطوير عمل الأمانة العامة التي تُسيّر عمل المجلس، علماً بأن الأمانة العامة، ذاتها، تشكل امتداداً للدول الأعضاء، وهذا مفهوم وطبيعي. لكن، من غير المفهوم أن لا تحظى الأمانة العامة بأي استقلالٍ نسبيٍّ في عملها، مما يحرمها من فرصة تقديم مبادراتٍ، وصوغ رؤى للمستقبل، وبدعم من الدول الأعضاء.


لم تكن الأزمة، التي أدت إلى سحب سفراء ثلاث دول من الدوحة، الأزمة الأصعب في تاريخ مجلس التعاون، فقد سبقتها أزمة لا تقل صعوبةً، تمثلت في رفض من رفضَ فكرة الاتحاد الخليجي، مما يمكن اعتباره خلافاً على مستوى استراتيجي، وكذلك الخلاف بين البحرين وقطر على مجموعة جُزر، امتد عشرات الأعوام، قبل أن تحسمه محكمة العدل الدولية في لاهاي في مارس/ آذار 2001، وفي عهد مجلس التعاون الخليجي وليس قبل قيامه. وكانت دولة قطر قد أعلنت حينها، وقبل صدور الحكم، أنها تلتزم مسبقاً بالقرار أياً كان، هذا فضلاً عن خلافاتٍ حدوديةٍ بين أكثر من دولة.
وقد عكست أزمة سحب السفراء الثلاثة من الدوحة، وهي أزمة سائرة على طريق الحل، اختلاف الرؤى حول المستقبل، مستقبل المنطقة الخليجية والشرق الأوسط، ولم تتعلق بخلافاتٍ مباشرة داخل البيت الخليجي. وبطبيعة الحال، فإن لتباين الرؤى إزاء المستقبل، أو بالأحرى حيال الواقع المتحرك، انعكاسات على البيت الخليجي. ولعل الحل الذي توافق عليه وزراء الخارجية، بتوجيهاتٍ من قادتهم، هو التقدم نحو تفعيل المعادلة "الذهبية" في الجمع بين الآليات التي تكفل السير في إطارٍ جماعي، ولئلا تؤثر سياسات أية من دول المجلس على مصالح دوله وأمنها واستقرارها، وبين عدم المساس بسيادة أية من دوله، أي المزج بين ما هو مقتضيات العمل الجماعي وما هو حق سيادي لكل دولة.
هنا، في تفعيل هذا التوجه، يكمن التحدّي أمام صانعي القرارات في دول المجلس، بمختلف مستوياتهم، وكذلك أمام اللجنة المولجة بمتابعة تنفيذ "وثيقة الرياض" الأخيرة. فالفيصل هو عدم الذهاب بعيداً في منطق العمل الجماعي، بما يحرم دول المجلس من خياراتها واجتهاداتها الذاتية، وكذلك عدم الذهاب بعيداً في الاستقلالية والحقوق السيادية. وليس سراً أن التحدّي السياسي الخارجي في المنطقة يتمثل في كل من التحديين، الإيراني والإسرائيلي. الأول جامح، ويخوض أصحابه حرباً ضد شعب عربي في سورية، ويعتبرون الظرف ملائماً لكل أشكال التدخلات، والعبث بالنسيج الاجتماعي، واستغلال الوضع في العراق، وفي اليمن، أيضاً، منصة ومنطلقا لممارسة ضغوط على دول المجلس ومجتمعاتها. والتحدي الإسرائيلي كامن في إقامة الدولة العبرية، وخصوصاً لدى اليمين الأشد تطرفاً على عقيدة توسعية عنصرية، ومحاولة اختراق منطقة الخليج، اقتصادياً وسياسياً وأمنياً. ويُذكر، هنا، أن مبادرة السلام العربية التي تم رفضها إسرائيليا سعوديةٌ وخليجية في الأساس، علاوة على التشابك بين ما هو أميركي واسرائيلي، وفي وقت تبقى فيه العلاقات الخليجية الخاصة مع واشنطن من الثوابت لواجهة التحدي الإيراني السافر (لطالما اقترح الإيرانيون حل مجلس التعاون!). في واقع الأمر، يختصر التشاور والتنسيق المستمر بين دول المجلس، بشأن هذين التحديين، أوجه خلاف كثيرة.
أما تعامل دول المجلس مع معارضين خليجيين، في هذه الدولة أو تلك، ففي رؤيةٍ أرحب للمسألة، فإنه، مع الأخذ في الاعتبار، أن المعارضة، إن لم تكن حقاً سياسياً، فإنها، على الأقل، "شر لا بد منه"، ووجود دولة تستقبل معارضين سياسيين وسلميين أمر حضاري، معمولٌ به عالمياً وفي دول عربية، وليس اختراعاً بالمناسبة، فلطالما لعبت بيروت مثل هذا الدور في خمسينيات القرن الماضي وستينياته وحتى منتصف سبعينياته، وكذلك القاهرة في عهدي جمال عبد الناصر وأنور السادات، وكذلك في الأردن والسعودية في عقود مضت،  شريطة أن لا يكون المعارض مداناً بحكم قضائي في بلده، أو أن يكون له نشاط غير سلمي، يقع في دائرة المحظورات الأمنية. لا بد من توفير لجوء إنساني لمعارضين سياسيين في البيت الخليجي، فذلك أفضل من لجوء هؤلاء إلى دولٍ غربية، لا تقيّد أنشطتهم.