اتحاد سوفييتي أوروبي ومركزية قرار مشترك

15 ديسمبر 2014

نيكيتا خروتشوف وليونيد بريجينيف مع قائد الجيش السوفييتي والاستخبارات(8نوفمبر/1962/Getty)

+ الخط -
بعد مرور ربع قرن على سقوط معاهدة وارسو، وانفتاح أوروبا الشرقية، أو انهيار الاتحاد السوفييتي، تبيّن بأنّ هناك قواسم مشتركة كثيرة بين الاتحاد السوفييتي المندثر والاتحاد الأوروبي الذي قام إثر مصادقة الدول المعنية على معاهدة ماستريخت، وبدأ نشاطه التوسّعي زاحفاً نحو أعماق قارة أوروبا الوسطى والشرقية.

ولنا أن نتساءل عملياً مَن قام بعملية التغيير الهائلة التي أدّت إلى تفكّك معسكر ضخم، والتأسيس لاتحاد جديد، ومسارعة أرمينيا إلى إعلان استقلالها، وانفصالها عن الاتحاد السوفييتي، إثر القتال المندلع مع جارتها أذربيجان في إقليم "ناغورني كاراباخ"، وتفكّك جمهورية يوغوسلافيا والجمهوريات الآسيوية ودول البلطيق وغيرها؟

الأحداث التي دارت خلال حقبة آخر رئيس للاتحاد السوفييتي، ميخائيل غورباتشوف، تلقي الضوء على تفاصيل ما حدث في تلك الفترة، علماً أنّ جدّ غورباتشوف وجدته عانيا من تسلّط الزعيم ستالين، وأبعدا إلى سيبيريا، لأسباب تتعلّق بأصولهما، وهذا ليس مستغرباً للعارفين بسيرة ستالين، لكنّ نشأة غورباتشوف كانت واعدة، وهو الذي تمكّن من تبوّء منصب السكرتير العام للحزب الشيوعي السوفييتي عام 1985، المنصب السياسي الأعلى في البلاد، وباشر بالانفتاح على الغرب، وبنى علاقات صداقة مباشرة مع مارغريت تاتشر ورونالد ريغان وهلموت كول. بدأ العملية الإصلاحية المعروفة باسم "بيريسترويكا" عام 1987، لكنّها لم ترتقِ للأهداف المرجوّة، وبدت سطحية. وكانت عملية الإصلاح نسبية للغاية، وأكّدت مركزية القرار في كامل دول المعسكر الاشتراكي، ولم يتجاوز الإصلاح السماح بالتعبير عن الرأي، من دون التمكّن من إجراء الإصلاحات على المستوى الاقتصادي، لمساعدة قطاع العمل الصغير والمتوسّط، الأمر الذي يعاني منه كذلك قطاع العمل الصغير والمتوسّط في الاتحاد الأوروبي في الوقت الراهن.

تعرّض الاقتصاد السوفييتي، وخصوصاً موسكو، المحرّك الرئيس للقطار الاشتراكي، إلى هزّات اقتصادية متتالية مع بداية تسعينيات القرن الماضي، ما أدّى إلى انسحاب القوات الروسية من أفغانستان، ورفع الدعم الاقتصادي عن الدول الأعضاء في المعسكر الاشتراكي، التي كانت، إلى وقت قريب، تحصل مجاناً على موارد الطاقة من نفط وغاز، وتصدّر كلّ ما تصنّعه لروسيا وأسواق حلف وارسو، بغضّ النظر عن النوعية. كلّ هذا انتهى، ولم يعد المركز، "موسكو"، جذّاباً للبقاء في فضاءاته، الأمر الذي سرّع بانهيار الاتحاد السوفييتي، وحاول غورباتشوف حقيقةً وضع أسس منطقية وعملية، لاتحاد جديد للدول الصديقة، بمحض إرادتها، لكنّ محاولة الانقلاب عليه عام 1991 حالت دون ذلك، ليتمكن بوريس يلتسين من خطف الأضواء، والتربّع على عرش روسيا. ما سعى إليه غورباتشوف، كما ورد في مذكّراته، يتمثّل بتأسيس اتحاد شبيه بالاتحاد الأوروبي، ولكن بمركزية أكثر وضوحاً، لكن دول المنظومة الاشتراكية لم تكن قد بلغت النضج السياسي لإنجاح هذه المبادرة، كما أنّ النخبة التي دعت للإصلاح السياسي نفسها لم تتوقّع حجم التغييرات المتسارعة، وكأنّها كرة ثلج متدحرجة، المقصود بذلك، كما هو متعارف عليه، بعملية الانفتاح وبدء المرحلة الانتقالية.

الاتحاد الأوروبي ـ مركزية بديلة

شهدت نهاية تسعينيات القرن الماضي، وبدايات القرن الواحد والعشرين، انضمام دول كثيرة في أوروبا الشرقية والوسطى للاتحاد الأوروبي، وهو أمر مفهوم ومنطقيّ، لصعوبة بقاء هذه الدول في منطقة محايدة مستقلة، بعيداً عن راعٍ دوليّ كبير، قادر على إحداث نقلة نوعية على المستويين، الاقتصادي والاجتماعي، لا تقوى عليها هذه الدول مستقلّة. عملياً، استُبدلت موسكو بالعاصمة البلجيكية بروكسل، مع اختلافات جذرية، أهمّها اعتماد بروكسل عاصمة سياسية لا تعبّر عن دور بلجيكي مماثل لروسيا، ووافقت الدول الأوروبية الكبرى على اعتماد بروكسل، لأنّها عاصمة تقليدية، من دون اختيار عاصمة دولة أوروبية كبرى، لتجنّب المنافسة بين لندن وباريس وبرلين، لتصبح هذه المدينة المتواضعة قبلة للأوروبيين. من جهة أخرى، نجد أنّ التعاون والتكامل الاقتصادي هو العامل الأهمّ في توجّهات الاتحاد الأوروبي، وتطغى على العامل السياسيّ، وأكبر دليل على ذلك التوجّهات السياسية الخارجية، المتباينة وغير الملزمة لدول الاتحاد، وخصوصاً بما يتعلّق بمنطقة الشرق الأوسط، على الأقل في الوقت الراهن، في وقت فرض الكرملين، إبّان الحقبة الاشتراكية، قراراته الملزمة بشأن التضامن مع الشعوب ودعم الثورات وما شابه. ونلاحط أنّ هذه التوجّهات انقلبت رأساً على عقب، وفضّلت موسكو دعم الأنظمة المستبدّة للحفاظ على مصالحها الاستراتيجية، ضاربة بعرض الحائط المبادئ التي نادت بها من قبل، خلافاً لليمين الأوروبي المتحفّظ.

الجدير بالذكر ارتفاع أسهم القادة الأوروبيين المعاصرين، من دون الأحزاب السياسية التي يمثّلونها بشكل عام، يمكن متابعة الدور القيادي المهم الذي تلعبه المستشارة الألمانية، أنجيلا ميركل، وجان ـ كلود يونيكر، رئيس اللجنة الأوروبية، الذي يمتلك مفاتيح صندوق المساعدات الأوروبية، وزعماء اليمين واليسار، الذين يحكمون أحزابهم بصورة شبه فردية، كما كان عليه الوضع في الحقبة الاشتراكية، فعدا عن مركزية القرار في الكرملين، كان ليونيد بريجينيف وتودور جيفكوف وجوزيف تيتو، وغيرهم من القادة الاشتراكيين السابقين، يمتلكون سلطة كاملة، لا تقبل النقاش أو الجدل، كما الحال نسبياً مع القادة الأوروبيين حالياً، وكان لفئة المثقفين دوراً عملياً وهاماً في الحراك السياسي والاجتماعي في المنظومة الاشتراكية، تراجعت نسبياً، في الوقت الحاضر، لصالح كبار نجوم الرياضة والفن والطرب الشعبي، ليحتلوا مكان الصدارة في تطور المجتمعات الأوروبية، لامتلاء محافظهم بالمال وظهورهم الإعلاميّ المتواصل. لكن مركزية القرار الأوروبي اتّخذت صيغة مختلفة عمّا شهده الاتحاد السوفييتي، واشترطت بروكسل لدفع الحصص المالية للدول الأوروبية الالتزام بعدم تجاوز العجز المالي في موازنات هذه الدول، بما يزيد على 3% من قيمة الدخل القومي، لكن دولاً عديدة لم تلتزم بهذا الشرط، وأكبر مثال على ذلك اليونان، واضطرّ الاتحاد الأوروبي لشطب مئات المليارات من ديون هذه الدولة، خوفاً من انهيار الاتحاد الأوروبي، وتبعت اليونان إيطاليا وإسبانيا والبرتغال وغيرها.
الكرملين وبروكسل والأزمات الإقليمية
لم يتنازل الكرملين عن مركزية القرار، حتى في زمن غورباتشوف، الذي كان يرغب في توزيع السلطات، وإيجاد آلية ديمقراطية لانتخاب الرئيس بشكل دوريّ منتظم، وكان على استعداد لعدم الترشّح لمنصب الرئاسة ثانية، حال الاتفاق على المقترح، مع أنّه تولّى منصباً يتيح له المجال لممارسة دور الديكتاتور من دون عناء، لكنّه فضّل المضيّ في طريق الإصلاح، بطريقته الخاصّة، ليفقد هذه السلطة التي لم يتبقّ منها سوى المؤسسة التي تحمل اسمه، وكثير من الملفات التي تبحث عن حلول يبدو بعضها مستحيلاً. كما يعتبر ربّما الزعيم الوحيد للاتحاد السوفييتي وروسيا الذي تنحّى عن منصبه وهو على قيد الحياة، لأنّ السلطة كانت تستمرّ حتّى وفاة الزعيم.

تغيّر، بالطبع، موقف الكرملين من الأزمات الدولية، وفي الوقت الذي تخلّى فيه غورباتشوف عن أفغانستان، رفض بوتين التنازل عن الدور المباشر لروسيا في دعم النظام السوريّ، ولا يمكن إنكار أثر هذا الدعم حتّى اللحظة. خلافاً لذلك، لا تملك بروكسل، عاصمة الاتحاد الأوروبي، صلاحيات لإرغام دول المنظومة الأوروبية بالالتزام بقرار مركزي سياسي محدّد بشأن الأزمات الإقليمية حتى الآن، على الرغم من وجود منصب وزير للشؤون الخارجية للاتحاد. توضّح ذلك في موقف اليسار الأوروبي من تنظيم حزب الله اللبناني بشأن العملية الإرهابية في مدينة برغاس الساحلية، والتي أودت بحياة ستّة سيّاح إسرائيليين وسائق الحافلة المسلم من أصول تركية عام 2012. ورفضت أحزاب يسارية عديدة، قبل نحو عام على المشروع الأوروبي، ضمّ حزب الله لقائمة التنظيمات الإرهابية الدولية السوداء، لكنّ القرار، في النهاية، أصبح حقيقة في الواقع. كما تباينت مواقف الأحزاب السياسية، في اليمين واليسار الأوروبي بشأن الأزمة السورية أيضاً. ليس هذا فحسب، بل يمكن مراقبة تباين ما بين مواقف الأحزاب القومية المتطرّفة نفسها في غرب أوروبا وشرقها. الأحزاب القومية الغربية ترفض الهجرة الأجنبية بشكل عام، وهذا يشمل هجرة الآسيويين ومواطني أوروبا الشرقية من بولندا وبلغاريا ورومانيا، ويرفضون تقديم حكوماتهم للدعم المالي والقروض للطلاب القادمين من هذه الدول، في وقت يعارض القوميون الشرقيون انفتاح بلادهم لاستقبال اللاجئين القادمين من سورية وأفغانستان وغيرها من الدول الآسيوية.

وضع الاتحاد الأوروبي آليات رقابة صارمة، في الآونة الأخيرة، تحرم الدول الأعضاء من المساعدات المالية، حال خرقها القوانين العامّة، وتأخير عمليات الإصلاح الحقيقية في مجال القضاء وقطاع الطاقة والزراعة والصحّة، وارتبطت صناديق الدعم بتقديم مشاريع واعدة ومراقبة مراحل تنفيذها، والبدء بعمليات عقاب إدارية، فور الوقوف على محاولات النصب والاحتيال، وهناك وكالة متخصّصة لمتابعة هذه المراحل، وتدقيق الحسابات. وتمكّنت اللجنة من رصد عمليات كثيرة لسرقة أموال الصندوق الأوروبي في دول أعضاء عديدة. على عكس الاتحاد السوفييتي الذي كان يقدّم المساعدات المالية والعينية، في مقابل الالتزام السياسي ومعاداة الغرب الرأسمالي، من دون وجود آليات رقابة عملية على أرض الواقع، وهذا أحد الأسباب الذي أدّت إلى توقّف عمليات النمو الاقتصادي، وتراجع ثقة الشعوب بالحكومات المركزية. لكن، أدت الأزمات الاقتصادية التي تعرّض لها الاتحاد الأوروبي إلى تراجع شعبيته أيضاً، ومع أنّ جزءاً كبيراً من الشعوب الأوروبية ترى أنّ الاتحاد أفضل الأماكن لممارسة الحياة، يرى 90% من مواطنيه أنّ الحكومات غير قادرة على إرضاء مطالبه وبدأت أعمار الحكومات بالتراجع والقصر سنة أو سنتين، وظهور أحزاب ثانوية قومية تمكّنت من خطف الهمّ الاجتماعي بوعود غير حقيقية، كالتخلّص من اللاجئين وطرد الشركات الأجنبية "الأوروبية" والبنوك، بل وحتّى قوام الاتحاد الأوروبي، باعتبارها محتكرة تعمل فقط لامتصاص دماء الشعوب والمزيد من الشعبوية السياسية.

سقط الاتحاد السوفييتي، ولم يعد على الخارطة السياسية منذ 1992، هل يمكن أن تتكرّر المسألة في الاتحاد الأوروبي؟ نظرياً، نعم. لكنّ القادة الأوروبيين قادرون على تجاوز العقبات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والتعلّم من تجربة الاتحاد السوفييتي لتجنّب تكرار ذلك، وهذا مرتبط بالتعاون المشترك بين دول الاتحاد ومحاولة رفع مستوى الدول الفقيرة إلى متوسّط الحياة في الاتحاد الأوروبي، مع أنّ المراقب يرى أنّ هذا الاتحاد يسير وفق سرعتين مختلفتين، ويصعب مقارنة الحياة في برلين وبوخارست أو باريس وصوفيا. يعمل الاتحاد الأوروبي على توزيع الأدوار القيادية، وتترأس الاتحاد دولة أوروبية بشكلٍ دوريّ مدّة ستّة أشهر. بهذه الطريقة فقط، يمكن أن تتحقّق الديمقراطية في السلطة المركزية في بروكسل، خلافاً للسلطة المركزية المطلقة الغابرة المحتكرة فقط في أروقة الكرملين.

أخيراً، تجدر الإشارة إلى أنّ الاتحاد السوفييتي حين انهار اختفى عملياً عن الخارطة السياسية العالمية، كمسمّى "الاتحاد السوفييتي"، لتحلّ مكانه عشرات الدول في أوروبا الوسطى وجنوب شرق أوروبا، في وقت لن تختفي عن الخارطة السياسية العالمية دولة تحت مسمّى الاتحاد الأوروبي، حال انهيار هذا الاتحاد، وهذا فارق كبير بين المركزية الجغرافية المطلقة للاتحاد السوفييتي والمركزية الديمقراطية للأوروبي. عدا عن ذلك، انهار الاتحاد السوفييتي بقوى وعوامل داخلية، من دون تدخّلات أجنبية، وبطريقة أدهشت كيان الاتحاد والمراقبين الغربيين. وبالمناسبة، لم يتوقّع أيّ من الخبراء السياسيين الغربيين انهيار الاتحاد السوفييتي بهذه السرعة وبهذه الطريقة، لذا فإنّ بقاء الاتحاد الأوروبي رهن قادته، وقدرتهم على التعامل مع التحدّيات الاقتصادية والسياسية، "الأزمة الأوكرانية والنفوذ الروسي"، وإيجاد طرق بديلة لموارد الطاقة عدا عن الموارد الروسية، ورفع مستوى الحياة في جنوب وشرق أوروبا، لكي تصبح القارّة متوائمة ذات معدّلات دخل قومي متقارب، وهذا يحتاج، بالطبع، لجهود جمّة لعقود من الزمن.

يمكن، بالطبع، الأخذ بالاعتبار التجربة السوفييتية وتجربة الاتحاد الأوروبي، إذا ما قرّرت مجموعة من الدول العربية تشكيل اتحاد اقتصادي وسياسي، ولنا في دول مجلس التعاون الخليجي عبرة بشأن الصعوبات التي تواجه الاتحادات على أشكالها وأنواعها كافة، والجهود المبذولة للتغلّب على التحديات والصعوبات التي تظهر بين حين وآخر.

59F18F76-C34B-48FB-9E3D-894018597D69
خيري حمدان

كاتب وصحفي فلسطيني يقيم في صوفيا. يكتب بالعربية والبلغارية. صدرت له روايات ودواوين شعرية باللغتين، وحاز جائزة أوروبية في المسرح