إصلاح الشرطة الأميركية: معركة صعبة تحاصرها العراقيل

إصلاح الشرطة الأميركية: معركة صعبة تحاصرها العراقيل

09 يونيو 2020
تتخطى مطالب إصلاح الشرطة السود (جوني لويس/Getty)
+ الخط -


ترفع التظاهرات التي خرجت في الولايات المتحدة، منذ مقتل المواطن من أصول أفريقية جورج فلويد على يد الشرطة، أو بالأحرى اختناقاً تحت ساق شرطي، في مدينة مينيابوليس، في ولاية مينيسوتا، مطلب إصلاح نظام الشرطة في الولايات المتحدة. هذه التظاهرات تتخطى بحجمها وأطياف المشاركين فيها، قضية العنصرية في الولايات المتحدة، لتحمل بعداً أكثر شمولية، عبر محاولة جرّ ملف القوانين المرتبطة بالشرطة ووكالات إنفاذ القانون إلى الـ"كابيتول هيل"، أو مقر الكونغرس، بعدما ظلّ عالقاً بين أيدي حكام الولايات ورؤساء البلديات وفي أدراج المحاكم. هذا الحراك الجديد، والذي يتصادف مع وجود دونالد ترامب في البيت الأبيض، قد يكون من المنصف القول إنه يُحمّل الرئيس الأميركي الحالي أكثر مما يحتمل وجوده لبضع سنوات فقط في البيت الأبيض، ولو أن استفزازه للمتظاهرين، باستدعاء نظرية "القانون والنظام"، والطلب من الشرطة بـ"السيطرة" على الحراك، جعل السهام موجهة إليه من بعض أطياف الحراك، وحتى لو أنه أيضاً لا يبدو متحمساً كثيراً للإصلاحات. في الصورة الأكثر اتساعاً، تحمل واشنطن، كرمز لمؤسسات الدولة، مسؤولية مقتل فلويد، وقبله أسماء كثيرة، على يد عناصر من الشرطة راكموا القوة والمكتسبات، خصوصاً بسبب إخفاق الحكومة الفيدرالية في لجمهم. وكان شريط مصور، من ثماني دقائق و48 ثانية، يوثق مقتل فلويد، كفيلاً بتحشيد غير مسبوق في تاريخ الولايات المتحدة ضد عنف الشرطة، وتعبئة استثنائية، عزّزتها ظروف عدة صودف تقاطعها مع الحادثة، منها وباء كورونا، وتحمل رزمة مطالب قد يستحيل تحقيقها في المدى المنظور، لكنها بالتأكيد تشكل الحجر الأساس لتحجيم "إمبراطورية" بحجم الشرطة الأميركية.

ومنح إعلان المجلس البلدي في مينيابوليس، أول من أمس الأحد، عزمه على تفكيك جهاز الشرطة في المدينة، بالتزامن مع طرح الديمقراطيين، أمس الإثنين، في الكونغرس حزمة إصلاحات تطاول قطاع الشرطة، تشمل إنشاء قاعدة بيانات لحالات استخدامها القوة المفرطة، أملاً للحراك بألا تذهب جهوده سدىً. وأكدت رئيسة المجلس البلدي في مينيابوليس، ليزا بيندر، التزام المجلس بـ"تفكيك أجهزة الشرطة كما نعرفها في المدينة، وإعادة بناء نموذج جديد للسلامة العامة يحافظ بالفعل على مجتمعنا آمناً"، مشيرة إلى أنها تعتزم تحويل الأموال المخصصة لميزانية شرطة مينيابوليس إلى مشاريع تتعلّق بالسكان، بالتوازي مع دراسة سبل استبدال جهاز الشرطة الحالي، محذرة من أن "فكرة عدم وجود قوة شرطة ليست مشروعاً يمكن تنفيذه على المدى القصير". من جهتها، قالت عضو المجلس، ألوندرا كانو، إن قرار تفكيك الجهاز اتُّخذ "بالأغلبية الكافية" لأعضاء المجلس، ما سمح بتجنّب "الفيتو"، لافتة إلى أن المجلس خلُص إلى أن جهاز شرطة المدينة "غير قابل للإصلاح"، مؤكدة إنهاءه.


ويرفع المتظاهرون في الولايات المتحدة سقوفاً عالية، في تحدٍ لأجهزة الشرطة الأميركية، التي يقال إنها تركع مع المتظاهرين استجداء لصور عدسات كاميرات الإعلام، لكنها تواصل تعنيفهم. بين هؤلاء المتظاهرين، بدأت أصوات "الإلغائيين" تأخذ زخماً، بعدما وجد طرحهم بإلغاء الشرطة نهائياً في الولايات صدىً أوسع له داخل الحراك، مقارنةً بفترات سابقة كان ينظر فيها إلى اقتراحاتكم بأنها بعيدة تماماً عن الواقع. فمثلاً، يقول طوني ويليامز، وهو عضو في مجموعة "أم بي دي 150" لبناء "بلد خالٍ من الشرطة"، لصحيفة "ذا غارديان"، إن "الناس حلموا لسنوات بإبعاد الشرطة عن المدارس، وها هم يرون اليوم حلمهم يتحقق".

في موقع المجموعة، ينشر القيّمون عليها لائحة من التعليمات تساعد المجتمع المدني على التخلي عن الاتكال على الشرطة، أو طلب الـ911 عبر الهاتف، كلما شعروا بالخطر، من بينها التدرب على الإسعافات الأولية، وعلى تنفيس التصعيد في ظروف قد لا تستوجب في العادة استدعاء الشرطة. حتى أن الموقع ينصح بالتوجه إلى أقرب مركز شرطة للتبليغ عن حادثة، إذا احتملت الوقت، بدل استدعاء الشرطة إلى المنزل، ما قد يجنب إزهاق الأرواح.

قد لا تبدو طروحات "الإلغائيين" قابلة للحياة، وهو ما تؤكده رئيسة بلدية مينيابوليس، عندما تقول إن "فكرة عدم وجود شرطة ليست مشروعاً يمكن تنفيذه على المدى القصير". تكتب مالايكا جبالي، وهي ناشطة ومحامية أميركية، في "ذا غادريان"، إن "نظام الشرطة في الولايات المتحدة (18 ألف قسم للشرطة في البلاد)، تمّ تطبيعه طويلاً في الثقافة الأميركية، في الميديا الشعبية، وفي هوليوود، وفي كل شيء. حتى أن لدينا فريق بيسبول، مسمى على اسم منظمة للشرطة، ذا تكساس رانجرز". لكنها تضيف أنه "بعيداً عن إضفاء الطابع الرومانسي على الشرطة الأميركية، فإنه كما تُمجد أميركا الجيش ووول ستريت (قطاع المال)، ويحمل البعض العلم الكونفدرالي، فإن تاريخ الشرطة الأميركية مغمّس بالدم". وبحسب إحصاء لـ"واشنطن بوست"، فإن ألف أميركي قتلوا برصاص الشرطة منذ العام 2015، و463 منذ بداية العام الحالي. ورغم أن أغلبية القتلى كانت من البيض المسلحين، إلا أن السود قُتلوا أيضاً بمعدلٍ لا يتناسب مع عددهم السكاني. كما أن هناك أساليب من عنف الشرطة، كالضرب خلال الاحتجاز، أو القبض عن طريق الخنق، تصيب السود أكثر من غيرهم.

ولأن "تفكيك" أو "إلغاء" الشرطة في الولايات المتحدة، مستحيل "في المدى المنظور"، يطالب المتظاهرون اليوم، بمشروع أكثر قابلية للتنفيذ، وبدأ يجد له مؤيدين في الكونغرس، إلا أنه قد يتضارب مع أجندات المسؤولين المحليين في الولايات. هذا الطرح، مفاده تقليص ميزانيات الشرطة، لا سيما مع الوضع الاقتصادي المستجد جرّاء أزمة كورونا، وتحويل الأموال للاستثمار في الخدمات، أو لتنمية المجتمع المدني، ما يقلل برأيهم من نسبة الجرائم. وفي الواقع، تضاعفت ثلاث مرات الميزانيات المخصصة للشرطة المحلية وشرطة الولايات منذ العام 1977، على الرغم من تراجع معدلات الجريمة. وتطالب حركات ناشطة في هذا الإطار، مثل "حياة السود مهمة"، منذ سنوات، بالاقتطاع من ميزانيات الشرطة أو ما يعرف بـ"defunding the police"، وتحويلها للسكان، في وقت كانت تواصل فيه الميزانيات المخصصة للخدمات بالتقلص، وحتى الاحتفاء في بعض الولايات. لكن هذا الطرح ظلّ يوصف من قبل الحكام الفيدراليين، بأنه "فانتزايا يسارية". في المقابل، وعلى الرغم من ارتفاع نسبة المؤيدين للاقتراح داخل الكونغرس اليوم، خصوصاً مع معدلات الفقر والبطالة التي يتركها وباء كورونا، فإن المشروع لا يزال متعثراً. ويبدو ذلك جلياً في بعض الأرقام: فمثلاً، لا يعتزم عمدة نيويورك بيل دي بلازيو، تخفيض ميزانية الشرطة البالغة 6 مليارات دولار لهذا العام، فيما قرر تخفيض خدمات أخرى، كالبرامج التعليمية والمخصصة للشباب، بسبب تداعيات الوباء، بنسبة قد تصل إلى 80 في المائة. وفي فيلادلفيا، أيضاً، أقرت زيادة بقيمة 14 مليون دولار، على ميزانية الشرطة، مقابل اقتطاعات في برامج مثل مساعدة الشباب على تجنب العنف.

ويتقاطع ذلك مع تقرير لصحيفة "نيويورك تايمز"، يسلط الضوء على "اللوبي" القوي الذي تشكله منظومة الشرطة في الولايات المتحدة. وتكتب الصحيفة، في تقريرها الذي نشر السبت الماضي، أنه "بينما تتصاعد الدعوات لإصلاح قطاع الشرطة، منذ حادثة مقتل الشاب من أصول أفريقية مايكل براون، على يد الشرطي الأبيض دارين ويلسون، في العام 2014 في فيرغوسن (ميسوري)، فإن اتحادات الشرطة ظلّت العائق الأساسي في طريق ذلك". وتضيف أنه "كلما تزايد الضغط السياسي للإصلاح، كلما ارتفع حجم التحدي لدى هذه الاتحادات لمقاومة ذلك، وقلة قليلة من المسؤولين في المدن، ومنهم ديمقراطيون، الذين تمكنوا من تخطي ذلك". ويوضح التقرير أن هذه الاتحادات "تعمل بشراسة على حماية أعضائها المتهمين بسوء السلوك، وغالباً في جلسات استماع استنسابية، وخلف أبواب مغلقة، كما أنها بدت شديدة الفعالية بإعاقة أي توجه للتغيير، مستغلة نفوذها السياسي، لإفشال الجهود المبذولة لتفعيل المحاسبة".

ويقول روبرت برونو، وهو أستاذ في العلاقات حول القوة العاملة في جامعة إيلينوس، للصحيفة، إن "الكثير من ضباط الشرطة يرون أنفسهم كوجوه للسلطة، تعتبر أن الحلول الوسطى تساوي الضعف". فيما تنقل الصحيفة، عن "خبراء آخرين"، قولهم إنه "من المنطقي بالنسبة لاتحادات الشرطة، التي ينظر إليها غالباً بريبة من قبل اتحادات عمالية أخرى، وهي ترى نفسها مميزة عنها، أن تعمد إلى سياسة حماية أعضائها بهذه الشراسة".

ويرى بورينزو بويد، مدير "مركز السياسات المتقدمة"، في جامعة "نيو هافن"، أن "لدينا 400 عام من تاريخ الشرطة الذي يؤكد لي أن الأمور تتجه إلى عدم التغيير"، معتبراً "أنه صحيح أننا نقف اليوم أمام نقطة مفصلية، تماماً مثل حادثة مايكل براون، لكن السؤال هو: إلى أين نحن ذاهبون من هنا؟"، وذلك على الرغم من منع ولايات، إثر حادثة فلويد، استخدام الشرطة لوسيلة الخنق، وأساليب أخرى من العنف، وتفعيل التدريب على تنفيس الاحتقان لدى المواجهات. وتكتب "واشنطن بوست" أنه "لم يمر أي مشروع بعد في الكونغرس"، فيما 57 في المائة من الأميركيين أصبحوا يعتقدون اليوم أن الشرطة تستخدم العنف المفرط في الظروف الصعبة ضد المواطنين السود، بحسب استطلاع لجامعة "مونماوث"، مقارنة بـ34 في المائة رأوا ذلك في العام 2016 (مقتل أرلون سترلنغ في باتون روج، لويزيانا).

على الرغم من ذلك، تتحدث الصحيفة عن "أصوات متعالية داخل الكونغرس، بدأت ترى ضرورة لتمرير إصلاحات، حتى من الجمهوريين المؤيدين لنظرية النظام والقانون". ويقول السيناتور الديمقراطي كوري بوكر، أحد المتبنين لقانون "عدالة الشرطة"، الذي طرح أمس، إن "تناغم هذه الأصوات يدل على شيء، فالمطالب بدأت تخرج من تحالفات متنوعة". ولهذه الأسباب، يسعى تحالف من حوالي 400 منظمة لتأمين "إصلاح على المستوى الفيدرالي".

من جهتها، تفتح "ذا غادريان" ملف تحويل البنتاغون قطعاً عسكرية بملايين الدولارات، بعضها استعمل في حروب أفغانستان والعراق، للشرطة الأميركية، وفق برنامج 1033، سمح بذلك، وفرض الرئيس السابق باراك أوباما تشديد القيود عليه في العام 2015، لكن ترامب رفعها لدى وصوله إلى البيت الأبيض.

منذ ظهور أول مركز للشرطة الليلية في الولايات المتحدة عام 1636، في بوسطن، حين كانت مكونات هذه الشرطة تعتمد على المتطوعين في ما يعرف بـ"المراقبين"، أو حتى الشرطة الخاصة الهادفة للربح تحت مسمى "العصا الكبيرة"، أو حتى شرطة "مراقبة العبيد" في الجنوب، يتبادر إلى الذهن، كثيراً، مصطلح "دولة في قلب الدولة"، لدى البحث عن الصلاحيات الواسعة التي تتمتع بها أجهزة الشرطة وإنفاذ القانون في الولايات المتحدة. لكن هذا المصطلح، الذي ينتقل إلى آخر، هو "الدولة العميقة"، عبر محرك "غوغل"، قد لا تكون الشرطة الأميركية من ضمن المحسوبين عليه في نهاية المطاف، إذا ما كانت الدولة العميقة في الولايات المتحدة تعني أجهزة الاستخبارات، والبنتاغون، و"وول ستريت"، وأيضاً "بيغ أويل"، أو مال النفط. وحتى من مفهوم الأمن القومي، لم تدخل الشرطة الأميركية، سوى في وقت متأخر على الخط، لا سيما بعد أحداث 11 سبتمبر/ أيلول 2001. على الرغم من ذلك، تبقى الشرطة الأميركية، بتاريخ طويل من العنصرية والعنف، من أحجار مأسسة النظام الأميركي. وفي الطريق إلى إصلاحها، عبر تصحيح قرونٍ من الانحياز العرقي، وكبح استخدام العنف، وتفعيل المحاسبة، يبدو مسار الحراك معبداً بالشوك. تكتب جبالي في "ذا غارديان"، إن "الشرطة الأميركية لم تنشأ لحماية الجماهير. بل لمأسسة العنف".

 

 

المساهمون