إسماعيل مطماطي.. خيميائي الخط الأمازيغي

30 يونيو 2014
حروفيّات تيفيناغية
+ الخط -

يستعدّ الخطاط الجزائري إسماعيل مطماطي (1964) لإصدار كتاب يضمّ مختارات من لوحاته التي اشتغل فيها على جماليات الخط الأمازيغي المعروف بالـ"تيفيناغ"، بعد أن انتشله من غبار الصخور في منطقة الطوارق أقصى الصحراء. وبهذا يعلن نفسه فناناً ضد الشفوية التي تسم الثقافة الأمازيغية في تجلياتها المختلفة.

لا يرى مطماطي نفسه إلا ذاهباً إلى المستقبل، وهو يعود إلى ماضي الأجداد، ليكتشف لحظتهم الأولى التي ربطتهم بالكتابة، ويسحبها إلينا لنكتشف بدورنا تجربة إنسانية ضد النسيان، وضدّ موت الإنسان مرّتين.

لعلّ أسخن سؤال يواجهه مطماطي في لوحاته هو: لماذا لجأ الإنسان الأمازيغي إلى الكتابة في تلك العهود الغابرة التي لم تلتقط منها دراسات التاريخ إلا شذراتٍ، تكاد تكون في حكم التخمين؟ إنه سؤال الوجود، وليس سؤال التاريخ (متى فعل ذلك؟). وبهذا يتجاوز الفنان التعاطي الأيديولوجي مع الهوية الأمازيغية، ويتناولها من المدخل الجمالي والإنساني.

يقول الكاتب والمترجم إبراهيم تازاغارت عن جاره وصديقه مطماطي: "لقد رفعَ النضالَ من أجل الأمازيغية إلى مقام الفن الراقي، حذواً بابن بطوطة، وعباس بن فرناس، وكبار أبناء "تمازغا" الذين شاركوا بقوة في بلورة الحضارة الإنسانية. جرّد البحث عن الذات وإحياء الموروث الثقافي الأمازيغي من الحساسية العرقية والسياسية، وأدخل عناصر التصالح بين الأرض والإنسان والتاريخ، في سياق الذوق الإنساني المتعالي عن العابر".

لا نكاد نعثر على معطياتٍ علمية ذات بال، ونحن نبحث عن أصول خط الـ"تيفيناغ". فقد اعتبرته بعض الدراسات أصلياً، أي أن الطوارق الأمازيغ في شمال إفريقيا لم يستلهموه من خطوط أخرى، فيما اعتبرته دراسات موازية مستلهماً من الفينيقية.

ولئن كان هذا الخط يُكتب في اتجاهاتٍ مختلفة، كأن يكتب من اليسار إلى اليمين، مثلما أقرّته الأكاديمية البربرية، فإن مطماطي يتخذ اتجاهاً واحداً وثابتاً في اشتغالاته الفنية: من الجمال إلى الجمال.

إنه الخيار الوحيد الذي يستهويه، ويستهوي متذوقة الفن في العالم الذي عرض في نخبة مهمة من متاحفه وأروقته الفنية. ولعلّ الورشة التي أشرف فيها على تعليم فنّيات الـ"تيفيناغ" لنخبة من الفنانين الأوروبيين في "رواق مونبولييه"، جنوب فرنسا، مطلع السنة الجارية، دليل على ذلك.

يتساءل مطماطي: "أليس من المفارقة أن يستقطب هذا الخط الأوروبيين، ولا يحصل ذلك مع المنتمين إليه؟" وحين سألناه: "كيف تفسّر أنك تكاد تكون الوحيد في هذا الميدان"، قال: "لقد انجرّت خرابات كثيرة عن تسييس الثقافة الأمازيغية، منها أن نخبة من المثقفين الجزائريين تفرّغت للنضال السياسي، ولم تلتفت إلى الأبعاد الثقافية للمسألة، ومنها الخط، فيما اشمأزت نخبة أخرى من هذا التعاطي، فباتت تقرأ الموروث الثقافي الأمازيغي على ضوئه".



نضجت الفكرة في رأس مطماطي، قبل أن يتخرّج من "مدرسة الفنون الجميلة" في الجزائر العاصمة نهاية الثمانينات، لكنها اصطدمت باندلاع حرب الإخوة الأعداء، مطلع التسعينات، فاضطرّ الفنان إلى الانزواء على نفسه ولوحاته في "تازمالت"، إحدى أكبر قلاع النضال الأمازيغي في الجزائر، ثم إحدى أكبر بؤر العنف المسلح.

ودفعه القلق الناتج عن المرحلة إلى أن يخوض تجربة في النحت على الخشب. لكن رغبته في أن يُخرج الخط الأمازيغي من غبار التاريخ والجغرافيا، ويجعل حضوره مرافقاً لحضور الخط العربي، قادته إلى التفرّغ لهذا المشروع الحلم.

سألناه: "هل استفدت من تقنيات الخط العربي في تجربتك؟" فقال: "إن الخطوط هي ثمار رغبة الإنسان في التواصل أصلاً، لكن لا بد من الاعتراف بالتراكم الذي عرفته التجارب الفنية في الخط العربي، في مقابل فراغ نحن مطالبون بسدّه، في ما يتعلق بالخط الأمازيغي".


التطلع إلى القبض على روح الأرض جعل ساحرَ الخط الأمازيغي يستثمر في الألوان الترابية، ويجعل منها مدخله إلى مخاطبة هذه الروح التي تأسر العين بمجرد أن تراها. إنها سلطة التراب المقدسة، وشوق العين إلى وسادتها الأولى والأخيرة.

ولئن كان متعارفاً عليه، بين الفنانين الأمازيغ، أن خط الـ"تيفيناغ" لا يقبل إلا عدداً محدوداً من الألوان، مثل البني والأصفر والبرتقالي والرمادي، فقد صالحت مخيلة صاحب "مرارة الرمل" بينه وبين بقية الألوان، وجعلت مثلثاته ومربعاته ودوائره التي تشكل معظم أبجديته، مفتوحة على نبض الحياة في تجلّياتها المختلفة.

وليس اختياره، في تشكيلاته الفنية، لنصوص شيخ الشعراء الأمازيغ سي محند أومحند (1840 ـ 1906)، وشاعر الأغنية الأمازيغية لونيس آيت منقلات (1950)، إلا تأكيداً على هذا النبض الذي يرفض أن يتوقف.

دلالات
المساهمون