إبليس على المحيط الأطلسي

16 ديسمبر 2014
+ الخط -
"لم يبقَ شيء. الحقيقة كوجهِ ميتٍ تفحّم بظلمةِ قبر"، يقول عبد الله زريقة في قصيدة كتبها منذ حوالي عشر سنين في الدار البيضاء، مسقط رأسه الذي عاد ليقيم فيه. هذا المثال القاتم المتناقض، والمسطّر وحده في صفحة مستقلة ضمن كتابه "حشرة اللامنتهى"، يكشف جوانب أسلوبية ونفسية، ظلّ عبد الله زريقة يصقلها وينوّع عليها منذ ديوانه "فراشات سوداء". تُرجم هذا الديوان إلى اللغة الفرنسية تحت عنوان آخر هو "شموع سوداء"، وأنجز الترجمة كاتب وسجين سياسي آخر هو عبد اللطيف اللعبي، الذي يقاسمه زريقة تجربة السجن كمعارضٍ سياسي في مملكة المغرب. وفي ترجمات فرنسية أخرى ترجم الشاعر نفسه بالتعاون مع برنار نويل. 

يستهلّ زريقة قصائد عديدة له بحرف الواو، وكأنها استئناف أو مواصلة لكلام قيل للتو فلم نسمعه، ولا يعرف الشاعر ولا نحن شيئاً عنه. لا تبدو قصيدته معنية ببداية ولا بنهاية، والواقع أنها لا تبدأ ولا تنتهي لأنها أسئلة لا تستفهم، فأسئلته وقائع لا تحتاج إلى إشارات استفهام. نفسٌ طويلٌ مبعثرٌ عبر الصفحات، متقطعٌ كلهاثٍ مذعور أو شهقات منتشٍ. وفي عالمه، الكابوسي والأليف في آن معاً، نجد الصورة والكلمة تتبادلان الأدوار في المفارقات والتضادات. تتدفّق التشابيه والمجازات والكنايات، تتوالى وتتلاحق، والعبارة تنبتر أحياناً، وتبدأ عبارة أخرى كأنها خطوة قفزت من حجر إلى حجر في نهر يفيض؛ وقد تستمر في انثيالها المحموم والمنحوت كلمةً كلمةً، فنقرأ جديد الشاعر وكأننا قرأناه من قبل، ويبقى محتفظاً في الوقت نفسه بنضارته وإبهاره للعين. حيويٌّ هذا الحفر المتكرر في المواضع نفسها تقريباً، وكأن كل كلمة تمس بانفعال عصباً نائماً. إنه الكابوس الجميل نفسه يعود جديداً كل مرة ويتخلل فقراته بياضُ اليقظة. الجحيم يعود ويكرر نفسه، جحيم الإنسان. وكم من مرّة في الفن أتى الجمال من الرعب والأماكن الموحشة؟
 
الكلمات قليلة وعاجزة، تحاول أن تستحيل صوراً وأشياء ولا تستطيع. هذا يأس المجرّدات التي لن تتجسّد أبداً، وهذا عبثها ولهوها أيضاً. في شعر زريقة جانب بصريٌّ صريح (لننظر إلى عنوان ديوانه "فراغات مرقعة بخيط الشمس")، وكتب عن هنري ماتيس وأماديو مودلياني وسواهما. تبدو فصاحته أجنبيةً بلا إعجام، فحين يخاطب عين القارئ بـ"خضرة ذهب الظلمة" نتذكّر أن العرب إذا استحلك الليل وقتمت ظلمته سمّوه ليلاً أخضر. 

زريقة في عوالمه الصغيرة والمحدودة بمهملاتها ومنسياتها، مستوحد ليل يتلذّذ بما يكتب، كالمقيم في بيتٍ لدايلان توماس "ينبجس الضياء حيث لا شمس تشرق". تدرك نصوص زريقة وقصائده أنها في مواجهة الموت دائماً، فالشاعر إذا سمحت له كوابيس الآخرين، ينشغل أحياناً بقراءة ما يكتبه كنداء إلى عدم العالم، في ضرب من تأمّل العدم نفسه داخل الكتابة، الشاعر مطرود حتى من قصيدته. 

قد نجازف بالقول إن عوالم كازابلانكا السفلية وضواحيها وظلال السجون، حاضرة في كتابات زريقة الروائية والشعرية، ولنتذكر هنا روايته "مقبرة السعادة" التي يبدو صوت ساردها السينمائي، صوتَ الشاعر نفسه في دواوينه العديدة، السارد المرح والمفزوع الهارب من رعب الأرض وكوابيسها.

يتنقل في الأرجاء شاعرٌ سئم الكتابة، حادّ البصيرة وخائف، يرى المتسولين واللصوص والفئران والسقوف التي تدلف في الليالي الماطرة، يرى سيقان العناكب والصنابير النحاسية وبقايا شموع على السلالم. إنها كتابة الجسد في عزلته وصمته وعريه ورعبه أمام الوجود، كتابة الضرورة التي لا مناص منها والذاهبة إلى القارئ في عزلته الأخرى. مونولوغ شخص مفقود يخاطب الآخرين حين يحدث نفسه ويراهم في قرارته، ولا ينسى الزمن أبداً. كتب الشاعر "الزمن كالماء إذا تسرب إلى ساعةٍ أفسدها".
المساهمون