أوهام مع/ ضد

25 يناير 2015
+ الخط -

لا يبدو أن الفلسطينيين عاشوا مرحلةً يتعلقون خلالها بما يحدث حولهم، أكثر من هذه المرحلة، لطالما كان ما يحدث في المحيط العربي والإقليمي والدولي مركزياً ومهما، ولكن، تمتاز هذه المرحلة بحالة مراقبة لكل ما يحصل حولنا في انتظار تغيره أو انقلابه أو تبدله، علّ ذلك يستتبع تغيراً في الحالة الفلسطينية الراكدة.
حالة التعلق تلك، والانتظار أيضا، مرتبطة تماماً بانعدام الخيارات داخلياً، أو إشاعة القناعة بانعدام الخيارات وتعطيل أية مسارات سياسية، أو نضالية، فاعلة تشعر الفلسطيني أن هنالك مهمة داخلية ملحة ينبغي القيام بها، وبما تبقى من وقت يمكن متابعة ما يجري في المحيط، لا العكس. وإن كان يمكن رصد أسباب لهذه الحالة، فهنالك ما يخص الفلسطينيين أنفسهم، وهنالك ما يتصل بحالة عربية عامة. وما يخص الفلسطينيين هو انشغال الفاعلين السياسيين في تعطيل أي مسارات فعل حقيقيةٍ، وتثبيت حالة الركود التي تضمن دوام الوضع الراهن. ولتثبيت ذلك، يتقن اللاعبون السياسيون في فلسطين نشر الأوهام بحجم ارتهان المسار السياسي الفلسطيني للمتغيرات الخارجية، وما يحصل في المحيط، كأن لا شيء مما يحدث في الداخل يمكن التحرك بشأنه على نطاق داخلي، وأفضل ما يمكن فعله هو الانصراف إلى مراقبة المحيط، وما يستجد فيه والنقاش بشأنه، وتحميل البعيدين مسؤولية أكثر القضايا قربا.
عامل أساسي ساهم في تكريس هذه الحالة لا يتصل بالفلسطينيين أنفسهم، بل بالحالة العربية العامة، هو الدفع المستمر للعامة وللأفراد نحو اتخاذ مواقف معلنة من كل ما يجري حولهم، لا يتم ذلك بطريقة إيجابية، بل بأكثر صوره سلبيةً، وتحت ضغط إعلامي ودعائي وإعلاني. وبدل أن يكون منطق (مع/ضد) فعالاً، ويعكس تصوراً للفعل السياسي والقناعات الأخلاقية، يبدو، اليوم، اعتباطياً ومزاجياً إلى حد بعيد، والأسوأ يكتسي طابعاً إلزامياً حيال كل القضايا، فلا بد في غمرة المساءلة المستمرة عن انحيازات الناس واصطفافاتهم أن يندفعوا لإعلانها كل حين، ويحاولوا الدفاع عنها. لا يقتصر الأمر على الموقف المعلن من تأييد أو رفض القضايا الجوهرية التي تمسّهم أو تؤثر فيهم، ولا يقتصر على الكيانات السياسية والنظم والأحزاب والجماعات، بل يمتد إلى صغائر الأفعال والمتغيرات، كأن ينقسم الفلسطينيون، أو أي فريقين متصارعين، حول برقية يرسلها حزب لحزب، أو مقالة صحفية عابرة، كلها انشغالات بالزائف على حساب الحقيقي، والطارئ على حساب الراسخ، تشبه انشغال الطبيب بمعالجة الأعراض، من دون الاهتمام بالمرض نفسه.
في الحالة العربية اليوم، لا بد من التفكير في أن الانهماك بالشأن السياسي والانهمام به لا بد أن يرتكز على الفعل السياسي، أكثر من الرأي السياسي أو الموقف السياسي، ففي غياب فاعل سياسي يحوّل مواقف شرائح شعبية واسعة وآراءها إلى فعل سياسي، وفق برنامج سياسي، ستغدو تلك المواقف والآراء مجرد مادة للاختلاف والتنازع. وباستعارة القاموس السياسي الثوري المصري، فلدى أعضاء "حزب الكنبة" مواقف وآراء سياسية كثيرة، لكنهم، بالدرجة الأولى، يفتقرون للفعل السياسي، ذاك الذي يلتزمون، من خلاله، بقضاياهم ويقاتلون من أجلها.
إن غياب الفعل السياسي لصالح الرأي والموقف يميّع قضايا جوهرية كثيرة، مثل الموقف من الاحتلال والحق في مقاومته والموقف من تداول السلطة ديمقراطيا، بل ويحكمها بمقولات رخوة عن الاختلاف بوجهات النظر، ويخضع القضايا المصيرية إلى تساؤلات ساذجة، من قبيل هل أنت مع كذا أم ضده، وتضخيم أهمية هذه التساؤلات. واللافت، اليوم، أن "الموقف الأخلاقي" لدى كثيرين بات متصلا باصطفافات مع/ ضد، من دون أي فعل أو تكلفة تتبعها، فيمكن، ببساطة، أن يعتقد أحدهم أنه أكثر أخلاقية ومبدئية من الآخرين، وهو جالس على أريكته يشاهد التلفاز، لمجرد أنه مع تلك الجهة وضد غيرها!


 

2BB55568-EFEE-416B-934D-5C762181FE7F
عبّاد يحيى

كاتب وباحث وصحفي من فلسطين