أوهام الحيّز الخاوي

أوهام الحيّز الخاوي

18 أكتوبر 2015
بيت حنينا / القدس المحتلة (تصوير: كيت ترينِري)
+ الخط -

يعكس تعامل دولة الاحتلال مع القدس كحيز خاوٍ ومكان فارغ المخيال الصهيوني الكولونيالي تجاه المكان والذي لا ينكر بالضرورة وجود بشر في الحيز المحتل، لكنه ينكر وجود ذوات سياسية أو "ذوات محسوبة" في هذا الحيز فيمحوها، بالتالي، رمزياً من المكان.

تاريخياً، زخرت الأدبيات الصهيونية بتمثيلات للفلسطينيين بوصفهم الآخر المختلف والمغاير، وهو ما تجلى في التمثيلات البصرية واللغوية للعربي في الخطابات الصهيونية الأولى. ففي كتابه "الصورة تسبق الأسطورة"، الذي حلل صورة الفلسطيني في السينما الصهيونية الأولى، أشار الباحث الفلسطيني عبد الجعبة إلى أن "السكان الأصليين يقدمون كمجموعة من العابرين المتوحشين والعدوانيين، والمعتادين على التنقل وعلى التهديد، وهم بعكس المستوطنين الصهيونيين لا يرتبطون بالأرض، ولا هم منها، لأنهم في الغالب طارئون لا يستحقّونها".

هذا بينما تم النظر إلى الحيز بوصفه حيزاً جغرافياً خالياً من السكان وهو ما عكسته مقولة يسرائيل زانغويل "أرض بلا شعب لشعب بلا أرض" في نهاية القرن التاسع عشر، ومقولة الشاعرة نوعمي شيمر "سوق المدينة خالية" في قصيدتها "أورشليم من ذهب"، التي كتبتها عشية احتلال بقية أراضي فلسطين سنة 1967، حيث لا يدور الحديث حول خواء جسدي للمكان من البشر بقدر ما يدور عن خواء أنطولوجي للمكان من ذوات إنسانية معتبرة سياسياً أو مهيأة للفعل السياسي، مع الإقرار بحضورها كذوات بيولوجية تستحضر من خلال صور العربي البدائي والهمجي الفج.

وعملياً، يشكل النظر إلى الحيز المستعمر بوصفه مكاناً خاوياً مركباً هاماً في الفكر الصهيوني الكولونيالي. وتقتضي الضرورة، بحكم المخيال الاستعماري للمكان الخاوي، إحياء المكان من خلال زرعه بحياة جديدة تكون محسوبة، هي تحديداً الحياة اليهودية التي يجب السعي وبسرعة كبيرة جداً إلى بثها في المكان، وكما قال دافيد بن غوريون بعد احتلال الشطر الثاني من مدينة القدس سنة 1967: "يجب جلب يهود إلى شرقي القدس بأي ثمن. يجب إسكان أعداد غفيرة من اليهود خلال وقت قصير. سيقبل اليهود السكن في شرقي القدس حتى في أكواخ. يجب عدم الانتظار لبناء أحياء منظمة. المهم أن يكون هناك يهود".

ومن المهم أن نشير هنا إلى أن الفلسطيني لم يظهر فقط بوصفه "آخر اليهودي الصهيوني ونقيضه"، بل حضر في بعض الأدبيات الصهيونية الرائدة بوصفه "ذاتاً سياسية وقومية". فقد كتب زئيف جابوتنسكي، مثلاً، في مقالته "الجدار الحديدي" إن "الفلسطينيين أمّة وليسوا همجاً".

فيما أبدى بن غوريون تفهمه لمعارضة الفلسطينيين للمشروع الصهيوني حين كتب: "لو كنت عربياً لما وافقت على أي اتفاق مع إسرائيل. هذا أمر طبيعي، فنحن أخذنا بلادهم... نعم، إن الله وعدنا بهذه الأرض ولكن هذا أمر لا يهمهم، فإلهنا ليس إلههم. لقد أتينا من إسرائيل وهذا صحيح.. ولكن هذا حصل منذ ألفي عام، فما الذي يدعوهم لأن يعيروه اهتماماً؟ [....] إنهم يرون شيئاً واحداً فقط: إننا جئنا وسرقنا بلادهم، فلماذا عليهم أن يقبلوا بهذا الأمر؟".

وتكرر الموقف ذاته لاحقاً عند إيهود باراك خلال مقابلة صحافية مع جدعون ليفي، إذ قال: "لو كنت فلسطينياً وفي سن ملائمة لكنت انضممت إلى منظمة إرهابية"، وهو ما يعني تفهماً ليس فقط لمعارضة الفلسطينيين للمشروع الصهيوني على تجلياته، بل تماهياً مع الفلسطيني واعتباره "يهودياً معكوساً" له تطلعات سياسية متطابقة مع التطلعات اليهودية القومية.

غير أن صورة الفلسطيني كذات قومية سياسية تشكل أولاً الهامش وليس المتن، والأهم أنها تأتي عادة من أجل تفسير "العداء المستديم" الذي يكنه الفلسطيني للإسرائيلي واليهودي الصهيوني، هذا العداء الذي تحول بحسب عدي أوفير وأريئيلا أزولاي مع الوقت "إلى سمة شخصية وجوهرية للفلسطينيين" مما يتيح عملياً تبرير كل سياسات القوة والقمع التي تقوم بها السلطة تجاههم، وذلك من باب اعتبار الصراع صراعاً وجودياً بين "الطرفين"، يغدو معه التطهير والطرد نتيجة حتمية لهذا الفهم وضرورة قصوى من أجل "البقاء"!

بموازاة عملية تمثيل الفلسطيني كذات غير سياسية، لعب التصنيف القانوني للسكان دوراً مهماً في السعي إلى تنفيذ المشاريع الاستيطانية الاستعمارية في "القدس الشرقية"، حيث عملت إسرائيل، بعد الاحتلال مباشرة، على إدماج الفلسطينيين المقدسيين في القانون الإسرائيلي كمختلفين ومتميزين، وذلك من خلال تصنيف مكانتهم بالاستناد إلى "قانون الدخول إلى إسرائيل" من سنة 1952 والذي استهدف تنظيم دخول الأجانب الذين يأتون إلى إسرائيل وهم لا يحملون الجنسية الإسرائيلية، إذ تتيح هذه المكانة "حيزاً للتعامل القانوني المختلف" وتحويلهم المتدرج إلى ساكنين مارقين في وطنهم يهددون، بمجرد وجودهم، وجود "المواطن المعياري" الذي يجب الدفاع عنه والاستثمار به ومن أجله.

سوسيولوجياً، يُعرّف "المارق" بأنه الخارج عن الجماعة وعن قوانينها أو ناموسها. ويدمج المروق، بعكس النبذ، بين البعد الزمكاني، بكونه يحيل إلى واقع مؤقت وعابر ومتحرك وغير ثابت، وبين البعد القانوني، بكونه يشير إلى فعل "غير قانوني" من وجهة نظر القوة المسيطرة، على الأقل، حيث يبادر شخص أو جماعة إلى خرق الحدود والخروج بالتالي إلى خارج الجماعة.

وإن كان الفلسطيني قد مُحي مع بدايات الصهيونية باعتباره ذاتاً سياسية وتمّ اعتباره مجرد ذات بيولوجية غير محسوبة، فإن فشل الدولة في "السيطرة" على فعله البيولوجي (أو ما يُسمّى الديموغرافي) سيؤدي إلى طغيان البيولوجي، وذلك بالتوازي مع فشل الدولة في تحقيق أهدافها "الديموغرافية" وتزايد التهديد المنبعث من وجود الفلسطيني كجسد غير مرغوب فيه.


(باحثة فلسطينية / القدس المحتلة)

اقرأ أيضاً: ههنا نشأ فتية القدس: الاستيطان و"إعادة التشكيل"

المساهمون