أوديت واحدة تكفي

أوديت واحدة تكفي

08 ابريل 2014
+ الخط -

 

مشت، أوديت سالم، بخطى ثقيلة. كانت تقطع الطريق نحو "حديقة جبران" في وسط بيروت عندما مرّت سيارة مسرعة وصدمتها. دارت على نفسها، ووقعت على الإسفلت الخشن. تهشّمت عظامها السبعينية. لم تصرخ ولم تفعل شيئاً. اكتفت بإطباق عينيها.

كانت، أوديت، متوجهة نحو خيمة المخطوفين والمفقودين المنصوبة قرب مقرّ "الأمم المتحدة" عندما غدرها القدر. والقدر غدر أوديت، المسكينة أكثر من مرّة. كان الأذى الأقسى الذي أصابها منه حين اختطف ولديها، ريشار وماري كريستين، على أيدي الميليشيات خلال الحرب الأهلية. لحظة افتراقها عن الحياة أمام الخيمة كانت لحظة فناء الجسد. الروح سبقت ذلك بزمن طويل.

يأتي السياسيون بين الحين والآخر ليعلنوا تضامنهم مع الخيمة وأهلها، مثلما سيفعلون خلال أيام في ذكرى الحرب الأهلية. يلتقطون الصور بوجوه بلهاء، وابتسامات فولكلورية تعبيراً عن تضامن كاذب. السياسيون وقحون. يحيّون الكاميرات قرب الخيمة، يعدون بقرارات وقوانين لن تأتي أبداً، ثم يختفون بسرعة ذوبان الملح في الماء. السياسيون مالحون، يذوبون بسرعة قياسية. ولأن الأمهات مهذبات بالعادة، لا يقذفونهن بأحذيتهن في وجوههم.

الخيمة اليوم فارغة. انكفأت الأمهات. ماتت أوديت، شهيدة للفراق. توفيت منيرة الطباع والدة المخطوف عادل. كذلك قضت، كمال شمعون، والدة المخطوف جوزف. مات، مخايل عوض، والد المخطوف، جورج، من دون أن يعرف شيئاً عن مصيره. فاطمة الزيات، والدة المخطوفين، غسان وفادي، وصاحبة اللسان "السليط" الذي لا يرحم، أسكتها ألم قدمها. أكل العمر همم من أكل وأقعد المرض الباقيات.

وحدها، ماجدة بشاشة، صمدت حتى الآن. تنام وحدها في الخيمة الجرداء خمسة أيام في الأسبوع. صاحبة العينين الزرقاوين الغائرتين في الحزن، تحفظ أسماء وصور عشرات الذين خرجوا ولم يعودوا. لا تترك الخيمة أبداً. لا يثنيها برد ولا يردّها حرّ. تنام هناك باسم من لا يملك القيام بهذا الأمر. رفاقها الوحيدون في كل الفصول ركوة القهوة، والانتظار الأخرس، وأبو عماد، عامل التنظيفات المهذّب الذي يهتم بالحديقة ويحرس الخيمة في غيابها.

صار عمر الخيمة تسع سنوات كاملة. باتت جزءاً من مشهد الحديقة. ولأننا كائنات يصيبها الخدر بسرعة نتكيّف مع الشواذ. المار على "جسر فؤاد شهاب"، لن يلحظ الخيمة من فوق. والمار قرب "الأسكوا"، لن ينتبه لها خلف جدران الإسمنت العملاقة. المجتمع الدولي يخاف على أبنيته ولا يسمع صوت أهل الخيمة. أما الدولة اللبنانية فصار "طرشها" مزمناً.

لم تمت أوديت، بالأمس. لكن أماً من أمهات الخيمة تنطفئ كل يوم. تغادر الحياة بصمت ثقيل من دون أن يشعر بها أحد. عندما تموت أم مظلومة يهتزّ عرش السماء. نحن مسؤولون دائماً عن غضب الله.

تستحق أمهات المخطوفين والمفقودين معرفة مصير الأبناء المغيّبين. يستأهلن تبريد قلوبهن.لا تقتلوهن مرّتين. لا تفعلوا ذلك. فأوديت، واحدة تكفي.

 

المساهمون