أنماط الاستبداد المعاصر ... تأملات وتجارب راهنة

أنماط الاستبداد المعاصر ... تأملات وتجارب راهنة

23 يونيو 2014

رومانيون يتظاهرون ضد الاستبداد الشيوعي في ديسمبر 1989(فرانس برس)

+ الخط -
أسباب عديدة حالت دون تمكن اليمين واليسار الأوروبيين، على حدّ سواء، من توقع سقوط المعسكر الاشتراكي وانحلال الاتحاد السوفييتي في نهاية ثمانينيات القرن الماضي، وكان الخبراء السياسيون، آنذاك، منهمكين بتحليل النظام الاقتصادي والسياسي الاشتراكي الذي يقف على نقيض النظام الرأسمالي، من دون أن يخطر ببالهم، ولو لحظة واحدة، أنّ هذا النظام آيل للانهيار.
كان اليمين، من جهته، على قناعة بأنّ أساليب القمع والاستبداد وقدرات أجهزة الاستخبارات على ملاحقة كلّ من يتعرض لأمن هذا النظام وسلامته تضمن ثبات النظام الاشتراكي وبقاءه. أمّا اليسار، فلم يتوقف عن الدفاع عن استحقاقات المعسكر الاشتراكي، باعتباره شديد العناية والاهتمام بالتعليم والصحة، واللتين كانتا شبه مجانيتين لفئات المجتمع كافة، وهذا صحيح بالمناسبة، وبقي، طوال فترة الصراع، بمثابة تحدّ للنظام الرأسمالي، حثّه على رفع معدلات الضمانات الاجتماعية والصحية، أسوة بالاشتراكي. الوحيدون الذين تنبأوا بسقوط هذا النظام هم الصحافيون والمثقفون المتابعون عن بعد للحراك الاجتماعي والسياسي داخل النظام الاشتراكي، وجاء الانهيار مدوياً، ليثبت أنّ الاستبداد والحكم بالقوة لا يضمن الأمن والاستقرار للحكومات المستبدة، مهما طال أمدها، وقدرتها على البقاء.
محاكاة الديمقراطية
جدير بالذكر أنّ الأنظمة الروسية المتعاقبة، بعد حقبة ميخائيل غورباتشوف، أدركت هذه الحقيقة، وبدأت البحث عن آليات للاستمرار في هذا النهج، على أن تقوم بعمليات تجميلية، وإيجاد آليات تحاكي الديمقراطية، وسرعان ما تمّ إدراج مصطلح التحديث "Modernization" في الحياة السياسية والاقتصادية، وعقد انتخابات برلمانية ورئاسية ومحلية، كما رأينا من تبادل الأدوار ما بين الرئيس الروسي الحالي ورئيس الوزراء السابق، فلاديمير بوتين، ورئيس الوزراء الحالي والرئيس السابق، ديميتري ميدفيديف. لكن، لا بدّ من التذكير بأنّ آليات محاكاة الديمقراطية غير قادرة على تحقيق الأمن والاستقرار فترات زمنية طويلة للأنظمة الاستبدادية.

في هذا السياق أيضاً، يمكننا تقديم مثال على ذلك ما قام به النظام السوري من محاكاة للديمقراطية، على وقع أنغام البراميل المتفجرة وعمليات القتل المنظمة والعنف الممنهج، لانتخاب صوري للدكتاتور بشار الأسد رئيساً لولاية جديدة لما تبقى من حطام سورية. وقد تنجح أنظمة استبدادية في تأجيل محاولات الانقلاب عليها، والتخلص منها، وأحياناً تأتي هذه المحاولات من حيث تؤتمن، لكن، وفي الملف السوري، يصعب تأويل إجراء انتخابات "ديمقراطية"، في ظلّ هذا التقتيل والتدمير الممنهج. وتشير بيانات وكالة "Global Peace Index"، أخيراً، إلى أنّ سورية باتت تحتل المرتبة الأولى بشأن ارتفاع معدلات العنف الذي فاق أحداث العنف حتى في أفغانستان، البلد الذي احتل المرتبة الأولى إلى وقت قريب في ممارسة العنف، وتأتي هذه المقارنة في جدول ضمّ 162 دولة حول العالم. وكان عبد الرحمن الكواكبي قد كتب في مؤلفه الشهير طبائع الاستبداد "ولما كان تعريف السياسة بأنه إدارة الشؤون المشتركة بمقتضى الحكمة، يكون بالطبع أول مباحث السياسة وأهمها بحث (الاستبداد)، أي التصرف في الشؤون المشتركة بمقتضى الهوى". ونقرأ في هذا الكتاب، أيضاً، أن كسل الشعوب يفتح شهية الحكام للاستبداد، أمّا الشعوب اليقظة، فتمتلك آليات وقدرات أكبر لردع الحكام، وإن كانوا يتمتعون بمواصفات وطباع استبدادية.
حين يدرك الحكام أنّهم قادرون على فرض سلطتهم المطلقة، لعدم وجود مقاومة حقيقية، يلجأون، على الفور، إلى تأسيس وتشكيل بنية وأجهزة أمنية وعسكرتها، لمواجهة أيّة بوادر لقلب السلطة، مستغلةً جهل الشعوب، ويصعب في المقابل قمع الشعوب المنفتحة اليقظة وإسكاتها وإذلالها، مهما بلغت سطوة الأنظمة الأمنية والقدرة العسكرية للأنظمة المستبدة. لذا، فإن رفع المستوى الثقافي والعلمي والحضاري هو من الخطوات الضرورية لمواجهة الاستبداد، حتى وإن حاول محاكاة الديمقراطية وبناها المختلفة. 
ارتباط الحريات بمستوى الرفاهية
تميل الأنظمة السياسية في الدول المتقدمة إلى الالتزام بالتقاليد الديمقراطية، ونذكر كيف نشرت المواقع الإلكترونية صورة رئيس الوزراء الهولندي، مارك روتا، ذاهباً إلى مقر عمله، راكباً دراجة هوائية، في العام الماضي، مدركاً، بما لا يقبل الشكّ، أنّ المنصب الرفيع الذي يتمتع به مؤقت، وسيحاسبه المجتمع المدني المتطور في هولندا على تبذير المال، ولن يصفق له أحد، بالمناسبة، إذا أحسن أداء عمله، لأنّ هذا واجب "ولا شكر على واجب". آليات الرقابة واللجان البرلمانية في الدول المتقدمة تمتلك القدرة على ملاحقة المخالفين والفاسدين، مهما بلغت مراتبهم في الهرم الحكومي، يساعد على تسهيل ذلك فصل السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية، والحيلولة دون السماح لإحداها بفرض أجندتها على السلطات الأخرى. لذا، ترى المسؤولين رفيعي المستوى يسارعون إلى تقديم استقالتهم، حال ارتكاب أخطاء، وإن كانت غير مقصودة، وإذا لم يفعلوا، تبدأ وسائل الإعلام بجلدهم ليل نهار، وتلاحقهم الفضائح السياسية، ليسقطوا، في نهاية المطاف، بشكل مدوّ بعد فترة زمنية قصيرة. 
الاستبداد الليبرالي
كتب صاموئيل هنتنغتنون في مؤلفه الشهير"The Third Wave: Democratization in the Late Twentieth Century" عام 1991، بعد سلسلة الانقلابات في المعسكر الاشتراكي "الاستبداد الليبرالي نظام غير مستقر، شبيه بمبنى مائل، غير قادر على البقاء والحفاظ على توازنه طويلا"، والمقصود بذلك أنّ الأنظمة الاستبدادية معرضة للمساءلة والمواجهة طوال الوقت، مهما حاولت رفع مستوى الحياة بين فئات المجتمع، لأنّ سقف المطالب الاجتماعية سيأخذ بالارتفاع والمطالبة بمزيد من الحريات والرفاهية، الأمر الذي يهدد أمن هذه الأنظمة، وهذه المواجهة مكلفة للغاية، وتعمل على حرمانها على المستوى البعيد من الأولويات والامتيازات التي تمكنت من الحصول عليها، طوال عقود حكمها وتسلطها، ما يؤدي، في نهاية المطاف، إلى زوالها، الأمر الذي يصعب حدوثه ومراقبته في العالم الثالث ودول الشرق الأوسط، وغالباً ما يتم التخلص من مسببات الفضائح، بما في ذلك الاغتيالات السياسية والسجن والإبعاد.
النظام الليبرالي الاستبدادي متربص، ويلجأ، عند الضرورة، إلى تبنّي التقاليد الديمقراطية، بحثاً عن أيّة فجوة مواتية لاقتناص المزيد من المغانم على حساب الشعب، ويتلوّن، حسب الطلب، لمجاراة الظروف الطارئة، لكنّه مفضوح للفئة المثقفة، وغير متين على المستوى البعيد.
أسباب نجاة أنظمة الاستبداد

يرى خبراء غربيون، مثل جيسن براونلي ولوكان وي، أنّ ابتعاد الدول ذات الأنظمة الاستبدادية عن الغرب الديمقراطي، يساعد في توطيد أسسها، وقد نختلف مع هذا الطرح، لأن الغرب لم يسعَ إلى فرض الأسس لبناء ديمقراطية حقيقية في دول الشرق الأوسط، أو يحاول ذلك، فالولايات المتحدة الأميركية فعلت ما يحلو لها في العراق، حرقت ودمرت باسم الديمقراطية الموعودة، ثمّ تركته خراباً وضحية للخلافات الطائفية التي عملت على إلغاء دور الدولة، ونرى، الآن، بأمّ العين نتائج الديمقراطية والتأثير الأميركي لاجتياح العراق في تسعينيات القرن الماضي.
من جهة أخرى، لعبت روسيا دوراً حاسماً في تثبيت النظام السوري، وتسليحه بكلّ ما يحتاج إليه نظام الأسد، للتنكيل بشعبه، والبقاء في سدّة الحكم. لذا، فإنّ طروحات الخبراء الغربيين قابلة للطعن، وقد تكون صحيحةً بالنسبة لدول تقع في أقاليم أخرى، مثالاً على ذلك الدول اللاتينية القريبة من الولايات المتحدة والدول المجاورة للاتحاد الأوروبي، والتي تحتاج إلى مساعدات مالية كبيرة، بشكل شبه دائم من صندوق النقد الدولي وغيره من المؤسسات المالية الغربية. تثبت التجارب، كذلك، أنّ الأنظمة ذات الحزب الحاكم الأوحد، سورية والصين، عصية على التغيير والسقوط، لامتلاكها أجهزة أمنية، تكنّ لها ولاءً غير محدود، وتمتلك قوة عسكرية، لا تتردد لحظة واحدة في استخدامها ضدّ كلّ من يحاول، أو يتجرأ، على المساس بالسلطة ومؤسساتها.
 الاستبداد والثورات الأيديولوجية
الأنظمة المستبدة التي قدمت على متن ثورات أيديولوجية قادرة على البقاء، فترة زمنية أطول بكثير من الأنظمة الاستبدادية التقليدية، مثالاً نظام معمر القذافي الذي سقط بعد جهد جهيد، وإثر تدخل عسكري أجنبي، وقد فضل القذافي الموت على ترك البلاد وتسليمها، ما أدّى إلى صراع قبائلي، ساعد على تأجيجه الفراغ السياسي المخيّم على البلاد، منذ عقود. هناك أنظمة استبدادية تستخدم الدين وسيلة لبقائها، وتوظّف، من أجل ذلك، الشيوخ لإطلاق الفتاوى، الواحدة تلو الأخرى، وبالجملة أحياناً، لتحريم الوقوف في وجه الحاكم، وهو حق يرجون منه باطلاً.

الأيديولوجيا تعمل كذلك على إيجاد حالة من الانتماء والولاء الأعمى للأنظمة الاستبدادية، أكبر مثال على ذلك النظرية الشيوعية وتطبيقاتها، وكان من الأسهل على المواطن السوفييتي الموت من أجل المجتمع الشيوعي على العيش في كنفه. لذا، سهل تقديم ملايين الضحايا في أثناء الحرب العالمية الثانية، زد على ذلك ما حصدته الأجهزة الأمنية الستالينية باسم التقدم والأممية.
لذا، فإن الاستبداد العقائدي يعتبر صعب المراس وقادراً على البقاء، ومواجهة أيّة معارضة محتملة أو مفاجئة، كما حدث في ميدان تيان ان مين في بكين عام 1989، وراح ضحية تلك الأحداث طلاب ومشاركون كثيرون في مظاهرات الاحتجاج ضد النظام الصيني. يخطئ من يعتقد أن الرئيس السوفييتي السابق، ميخائيل غورباتشوف، بدأ العملية الإصلاحية "بيريسترويكا" في نهاية ثمانينيات القرن الماضي، لأنّه فقد إيمانه بالأيديولوجيا الماركسية، على العكس، فقد بدأها رغبةً منه بتحدي الغرب الديمقراطي، والتوصل إلى نتائج متقدمة تحسّن أوضاع الاتحاد السوفييتي، لكنّ المعارضة المثقفة في الأوساط الدنيا في المجتمعات الاشتراكية، سارعت في إحداث التغيير الجذري في كل دول المنظومة الاشتراكية، بشكل مفاجئ، ويدرك بوتين هذه الحقائق جيداً. ولذلك، نجده يبتعد كلّ البعد عن تبني أيّة أيديولوجية في سياسته، مع محاولة بعث الحنين للحقبة الاشتراكية، لأن الحياة كانت أسهل في ظلّ عدالة الفقر، وغياب الطموح الفردي للمواطن السوفييتي. ولم يلجأ بوتين لمنع سفر مواطنيه خارج بلدهم إلى أيّ مكان يريدون حول العالم، وسمح بالأعمال الحرة، وأتاح المجال لآليات اقتصاد السوق، لذا، يصعب التحدث عن أيديولوجية محددة فرضها بوتين في مجتمعات الفيدرالية الروسية.
الابتعاد عن تبني الأيديولوجيات في أنظمة الحكم المعاصر يكبل أيدي الدول الديمقراطية، ونجدها غير قادرة على اتخاذ أية إجراءات لمواجهة هذه الأنظمة، لأنّها، وفي ظاهرها، تحاكي الديمقراطية، وقادرة على استيعاب أيّة معارضة طارئة وامتصاصها، بإجراء انتخابات عاجلة مصحوبة بشراء الأصوات والذمم، وإعادة توزيع الأدوار وتقديم الوظائف والمكافآت المالية بصيغ ومعادلاتٍ لا تخطر على بال، وتشكيل تجمعات اقتصادية كبيرة من رجال الأعمال الموالين للسلطة، ليفوزوا بالامتيازات والتمكن من الاحتكار لتحقيق أرباح كبيرة للغاية.
الانفتاح على العالم أمر سهّله الإنترنت، وتوفّرُ إمكانية التعرف على طريقة الحياة في الدول المتحضرة، وتسهيل السفر إلى الخارج، الانفتاح يتيح المجال للمقارنة بين الأوضاع المعيشية داخل دول النظام الاستبدادي ودول العالم المتحضر. ونعرف جيداً أنّ ستالين كان يخشى الانفتاح للحفاظ على منصبه زعيماً مطلقاً، لذا، لجأ إلى نفي الملايين إلى سيبيريا، لمجرد الحديث عن الغرب، خلافاً لبوتين الزعيم الجديد لروسيا، والذي فتح البلاد على مصاريعها، ولم يلجأ إلى الانطواء في هذا العالم المتغير، لذا، فإن الانفتاح قد يعمل، بشكل غير مباشر، على تثبيت أسس النظام المستبد، فضلاً عن تقويضه. وقد لجأ النظام السوري إلى هذا الإجراء، ففتح البلاد لتهجير الملايين من المواطنين السوريين، لتخفيف العبء الإنساني والسياسي عنه، لتأتي نتائج الانتخابات شبه الديمقراطية الأخيرة لصالحه، بنسبة مرتفعة كالعادة، من دون الحاجة أو السماح بتصويت المعارضين في الداخل والخارج، على حدّ سواء.      
59F18F76-C34B-48FB-9E3D-894018597D69
خيري حمدان

كاتب وصحفي فلسطيني يقيم في صوفيا. يكتب بالعربية والبلغارية. صدرت له روايات ودواوين شعرية باللغتين، وحاز جائزة أوروبية في المسرح